لماذا كان الغدير؟ ولماذا عليٌّ دون غيره؟
قال الله تعالى: {يا أيّها الرّسولُ بلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ من ربِّك وإنْ لم تفعَل فما بلَّغتَ رسالتَه والله يعصِمُكَ منَ الناس}[المائدة: 67]، حيث نعتقد أنها نزلت في عليّ (ع)، وهذا ما يؤكّده جوّ الآية وسياقها، إضافةً إلى أسباب النـزول، حيث توحي بأنّ النبيّ (ص) كان قد بلّغ الكثير من الرسالة، أو بلّغ كل تفاصيلها.
ولذا فما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الأولى حمل معنى الآية "على أنّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنّصارى، وأمره بإظهار التّبليغ من غير مبالاة منه بهم"1وغير ذلك، أكثره لا يتناسب مع جوّ الآية الّذي يوحي بأنّ هناك أمراً مهماً يتعلق بسلامة الرّسالة، بحيث يعادل الامتناع عن تبيلغه الامتناع عن تبليغ الرّسالة من الأساس، هذا مضافاً إلى أنّ مسألة الهيبة من اليهود والنصارى وقريش، منافية لموقفه الصّلب في أداء الرّسالة منذ عهد الدعوة وحتى مرحلة الهجرة التي نزلت الآية في آخرها.. وعلى ما قدّمناه، يصبح كون الآية نازلةً في ولاية عليّ (ع) أمراً واضحاً، وذلك لأنّ قرب عليّ (ع) من رسول الله (ص) من ناحية النسب والمصاهرة، يفتح المجال للكثير من أقاويل السّوء التي تربط الموقف بالعاطفة في قضيّة الولاية، ما يحتاج إلى الدّفاع الإلهيّ الذي يتمثّل في عصمة الله له عن ذلك كلّه.
الولايةُ في خطِّ القيادةِ
وعلى ضوء ذلك كلّه، نفهم أنَّ المتعيّن هو تفسير كلمة "المولى" في حديث الغدير بالولاية في خطّ القيادة، وبقرينة قوله (ص): "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟"، وهو يعني أنّه (ص) أراد أن يثبت لعليّ ما هو ثابت لنفسه مما أخذ اعترافهم به، وهو كناية عن القيادة، لا المحبّة والنصرة، كما يذهب إليه بعض المفسّرين. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نلاحظ أنّ إعلان مودّة عليّ (ع) ونصرة النّاس له ـ بناءً على من فسّر الولاية بالمحبّة والنّصرة ـ لا تحمل أيّ أساس للنّقد وللكلام غير المسؤول من النّاس، ليكون ذلك سبباً في الحديث عن عصمة الله له منه.
من خلال ما تقدَّم نقول: إنَّ لخلافة النبيّ (ص) معنى يختلف عن أيّ خلافة أخرى، إذ ليست قضيّة الخلافة هنا قضيّةَ شخصٍ يُراد له أن يقود عشيرة من العشائر، أو أن يكون حاكماً إدارياً، كما هو طابع الحكم اليوم، بل إنّ خلافة النبيّ (ص) تحتاج إلى شخصٍ يكمِّل دور النبيّ، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسوله بهذا الدّين من أجل أن يُدخل الإسلام في عقول النّاس وفي قلوبهم، ويخرجهم من الظّلمات إلى النور، فلا بدَّ لخليفته أن يقوم بالدور نفسه، وذلك بأن يحمل في عقله عقل رسول الله، وفي قلبه روح رسول الله، وفي حركته حركة رسول الله في المنهج والمضمون.
وعلى هذا الأساس، لا بدَّ أن يتمّ التَّفتيش بين المسلمين عن الشخصيّة التي تستطيع ملء الفراغ بعد رسول الله (ص)، وتنطلق بالإسلام في امتداد العمق؛ ولا نجد غيرَ عليّ (ع) في هذا المجال.
أسبابُ اختيارِ عليٍّ (ع)
والسّبب في ذلك، أنّنا عندما ندرس عليّاً بكلّه في عناصر شخصيّته وفي حركته، فإنّنا نجد أنّه وحده المؤهَّل لخلافة النبيّ (ص) والقيام بدوره، وهذا ما نثيره من خلال العناوين التّالية:
أ ـ البيئة الإسلاميَّة:
عليّ يقتفي أثر رسول الله (ص) اتّباعاً في الفكر والتأمّل والروح والخُلق والعادات والسلوك.
إنّ كلّ المسلمين الذين دخلوا في الإسلام على يدي رسول الله (ص)، كانوا قد عاشوا في بيئة الشّرك ـ بطريقة وبأخرى ـ قبل أن يُسلموا، وقد تأثّروا بالكثير من مفاهيمها، بحيث أصبحت هذه المفاهيم تشكّل بعض الرّواسب الخفيّة في داخل نفوسهم، الأمر الذي لا يمنع أن يكونوا مخلصين للإسلام، ولكن يمنع أن تكون شخصيّاتهم مجسّدة للإسلام بكلّ أبعاده وخصوصيّاته.
أمّا عليّ (ع)، فإنه لم يعش في أيّ بيئة غير البيئة الإسلاميّة التي كفلها له رسول الله (ص)، فقد تولّى (ع) تربيته بعد أن اختاره من بين إخوته لعمّه أبي طالب، واحتضنه قبل أن يُبعَث رسولاً، وأعطاه روحانيّته وآفاقه وأخلاقه...
ب ـ الطفولة الواعية:
ونستطيع أن نقول بأنّ طفولة عليّ (ع) كانت طفولة واعية منفتحة، وهي من صنع رسول الله (ص)، ولذلك لم يؤمن، عندما دعاه النبيّ (ص) إلى الإيمان، إيمانَ الأطفال، كما يحاول بعض المؤرّخين أن يصوّر المسألة، ليقول بأنّ أوّل من آمن من الأطفال عليّ، لأنّ طفولة الطفل ليست طفولة سنّه وعمره، وإنما هي طفولة وعيه، وإنَّ من الأطفال من هم رجال في عقولهم ووعيهم، وهناك من الشّيوخ من هم أطفال في عقولهم ووعيهم، ولذلك فإنَّ الطفولة الجسديّة لا تستلزم دائماً الطّفولة العقليّة، وطفولة عليّ كانت طفولة واعية عاقلة شابّة، فإن المعلّم رسول الله، وما أعظمه من معلّم!...
ج ـ حركية الجهاد:
كانت أولى المحطات الأساسيّة في جهاد عليّ (ع) في حركة الدعوة الإسلاميّة، مبيته على فراش النبيّ (ص) ليلة الهجرة، وكان ذلك دليلاً صادقاً على أنّ حفظ رسول الله (ص) كان أكبر همّه؛ رسول الله الرسالة والخطّ...
ثم كان المجاهد في كلّ مواقع الجهاد؛ في بدر وأُحُد والأحزاب وحنين وخيبر، وقد احتلّ في كلّ هذه المعارك والتجارب الحربيّة الصّدارة، فكان له ما لم يكن لغيره فيها من النّتائج الكبيرة التي أعطت الفتح للإسلام والمسلمين...
د ـ حديث النبي (ص) عنه (ع)
إنّ رسول الله (ص) لم يتحدّث عن أحدٍ كما تحدّث عن عليّ (ع)، وذلك في كلّ ما رواه المسلمون من أحاديث النبيّ (ص).
وقد نقل المسلمون عن رسول الله (ص) قوله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"2، ونقلوا عنه (ص): "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"3، وقوله (ص): "أما ترضى أن تكون منّي بمنـزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي"4...
وحديث النبيّ (ص) عن عليّ (ع) لم ينطلق من هوى شخصيّ عاطفيّ، أو مراعاةً لقرابته منه، لأنّ هواه (ص) هو هوى رسالته وخطّه وإخلاصه وانفتاحه على كلّ ما يرضاه الله سبحانه وتعالى؛ وذلك قوله تعالى: {وما ينطِقُ عن الهوى * إنْ هُوَ إلّا وحيٌ يوحى}[النّجم: 3 ـ 4]...
ولذا نفهم أنّ رسول الله (ص) كان يريد بكلماته هذه أن يعدَّ عليّاً في عقول المسلمين، من خلال أنّه الشّخص الذي يملك العلم كلّه، والّذي ارتبط به الحقّ ارتباطاً عضويّاً، بحيث لا يمكن أن تجد أيّ ثغرة بين الحقّ وعليّ، ما يجعله تجسيداً للحقّ، فكما يمكنك أن تنظر صورة الحقّ الفكريّة بعقلك، كذلك يمكنك أن تنظر صورة الحقّ العمليّة متمثّلة بعليّ (ع).
هـ ـ حقانيّته (ع) على أرض الواقع
لم يكن عنوان الحقّ الّذي طرحه النبيّ (ص) بالنّسبة إلى عليّ (ع) مجرّد عنوان وشعار، بل يمكنك أن ترى تجسيد ذلك كلّه في كلّ كلمة وكلّ حركة، سواء كان داخل الحكم أو كان خارجه.
ينقل المؤرّخون أنَّ عمر بن الخطاب قال في حقّ عليّ (ع) وهو يتحدَّث عن الشّورى: "لو وليها عليّ، لحملهم على المحجّة البيضاء"5...
وممّا يبعث على الدّهشة والتساؤل في آنٍ، أنّه لنفرض أنَّ عليّاً (ع) لم يكن هو المتعيّن للخلافة بنصّ الغدير، فعلى الأقلّ هو أحد الأشخاص البارزين في الصّحبة والقرابة والجهاد والعلم، بل هو الأبرز، فهل من المعقول أن يتمّ حسم مسألة الخلافة من دون أن يُلتمس رأيُ عليّ (ع) في ذلك؟!
ثم لو أردنا أن نفلسف مسألة السقيفة على أساس الشّورى، فهل إنّ ما جرى في السقيفة يمثّل شورى حقيقية؟! وبعبارة أوضح نقول: لو أنّ أحداً في كلّ العالم المعاصر حاول أن يتحرّك سياسياً بطريقة الشّورى في مسألة الحكم، أو غيرها، وقد تمّ طرح شخص على أنّه المؤهَّل لقيادة الأمّة، ولخلافة النبيّ، بالطّريقة التي جرت في سقيفة بني ساعدة، فهل يوافق على مثل هذه الشّورى؟!
فليست المسألة هي أن يكون للمسلمين أميرٌ كيفما كان، ومن دون أساس واقعيّ، وليست المسألة مجرّد تنظيم إداري، بل إنّ المسألة كانت هي حركة الرسالة في مستواها الثقافي والفكري والروحي والسياسي والاقتصادي والأمني وما إلى ذلك، بالمستوى الذي كان يمثّله رسول الله (ص).
عليّ هو المتعيـّن
من خلال كلِّ ما قدَّمناه، وحيث إنَّ المطلوب أن يكون هناك قائدٌ يملك أن يكمل حركة الرّسالة، وأن يكون له من العلم ما يستطيع أن يجيب به على كلّ أحد، كما كان رسول الله (ص)، وأن يكون له من الاكتفاء بحيث لا يحتاج في مواجهة التحديات التي تواجه الإسلام على كلّ المستويات إلى أحد، بل يحتاج كلّ الناس إليه، فإنّ علياً هو المتعيّن لذلك كلّه؛ فعليّ (ع) هو الذي يمكن أن يجيب عن كلّ سؤال، ويخطّط لكلّ مرحلة، ويفتح أكثر من أفق.. وهذا ما عشناه واقعاً مع كلّ التراث الذي وصلنا إليه...
* من كتاب "نظرة إسلاميّة حول الغدير".
[1]التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج12، دار إحياء التراث العربي، ط3، ص50.
[2]بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 120، باب 8، ح 1.
[3]بحار الأنوار، ج 10، ص 422، باب 26، ح 12.
[4]بحار الأنوار، ج 2، ص 226، باب 29، رواية 3.
[5]الاحتجاج، الشّيخ الطبرسي، ج 1، ص220.