ورد في دعاء كميل عن مولانا أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام): "أَللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ".
"أَللَّهُمَّ": ثمّة توافق عام عند علماء اللّغة على أنَّ الأصل في كلمة اللَّهم هو
"يا الله"، وإنْ أظهروا تبايناً حول كيفية تركيبها الخارجي، وكيف أصبحت (اللَّهم)،
بدلاً من (يا الله).
ومادامت هذه الاختلافات لا تغيّر المقصود من استهلال الدعاء بمناجاة الله سبحانه
وتعالى بعبارة (يا الله)، فنحن نترك أمر مناقشة هذه الاختلافات إلى مظانّها
وأماكنها.
ومن الواضح أنّ عبارة (يا الله) تتضمّن منادّى هو الله سبحانه وتعالى، ومنادياً هو
الإنسان. فثمّة نداء، إذاً، من تحت إلى فوق، ومن أسفل إلى أعلى. وفعل المناداة يضع
الإنسان في مقام الحاجة، بمعزل عن طبيعة هذه الحاجة ونوعها أو حجمها. فنحن إنّما
ننادي لحاجة لدينا عند المنادى...
"إنّي أسألُكَ":
السؤال في اللّغة هو الطلب. والطلب على ثلاثة أنواع:
أ ـــ الطلب من العالي إلى الداني ويسمّى أمراً.
ب ـــ الطلب بين المتساويين ويسمّى التماساً.
ج ـــ الطّلب من الداني إلى العالي ويسمّى سؤالاً.
ولذا استخدم عليّ (عليه السلام) كلمة السؤال، لما في هذه الكلمة من حفظ لمقام
الذّات الإلهيّة، وتثبيت له في مقام العبوديّة والفقر والحاجة، وفي ذلك منتهى الأدب
من العبد لمولاه.
فالسؤال هنا يعني التوجّه بالطلب والمقصد ممّن هو أدنى، أيّ من الإنسان إلى الله
تعالى، إلى مَنْ هو في المقامات العُلى، وهو بذلك يتجلبب برداء التواضع والمسكنة،
ويشهد على نفسه ولنفسه بأنّه هو "الحقير المسكين المستكين"، بينما يشهد الله تعالى
بالعظمة والجلال والكمال والغنى.
ولذا، لم يقل (عليه السلام)، أطلب بصفة الأمر، لما في ذلك من استعلاء وتكبّر على
الذّات المقدَّسة. كما لم يقل ألتمس عندك يا الله، حتّى لا يجعل نفسه في موقع
متكافئ مع الله تعالى، بحيث يضع نفسه في نقطة موازية لله تعالى، وكأنّه هو والله
تعالى كفّتا ميزان متعادلتان، لا يفصل بينهما فاصل، أو يميّز بينهم مائز. ولا يفوت
لبيب ما في ذلك من معاني الاستعلاء والفخر، حيث يضع الإنسان نفسه في مصاف الآلهة.
بل قال (عليه السلام): "أسألك"، أي أطلب إليك، مقرّاً بما أنا عليه من الفقر
والحاجة إليك في وجودي، وفي كلّ أسباب حياتي. فالسؤال ينضح، هنا، بمعاني الخضوع
والخشوع، التي هي من المعاني المطلوبة في مقام الدّعاء والتوبة إلى الله تعالى.
"برحمتك التي وَسِعَتْ كلّ شيء:" المخاطَب هنا هو الله تعالى. والمخاطِب هو الإنسان.
ودافع المخاطِب هو التوجّه بالسؤال إلى المخاطَب، أي الله سبحانه وتعالى. والسؤال،
كما تقدّم، هو الطلب. والطلب ينمّ عن حاجة ونقص وفقر. وهو، بالتالي، يكشف عن حالة
فقر وعوز عند السائل، سواء أكان هذا الفقر فقراً علمياً ـــ معرفياً لجهلنا ببعض
الأمور، أم فقراً وجوديّاً، لنقص في أسباب كمالنا الوجودي، أم لعوائق تعوق من كمال
هذا الوجود في الطريق، أم لرفع نتائج وثمرات أفعال لنا ردّت إلينا، أم للاستعانة
على ما ينغّص حياتنا ووجودنا من همّ، أو كرب، أو سقم، ومرض، وفقر، وعدوّ... إلخ،
وذلك كلّه في سبيل رفعه أو إصلاحه وتجاوزه.
ولكن، عندما يسأل الإنسان الله (سبحانه وتعالى) مسألة، فإنّه يتقرّب إليه ببعض
الأشياء، التي من شأنها أن تفتح أبواب الإجابة. وأيّ شيء أقرب إلى ذات الله تعالى
من بساط رحمته، هذه الرحمة الإلهية "التي وَسِعَتْ كلّ شيء"؟! فما من شيء إلاّ هو
مشمول برحمة الله تعالى، وما من شيء إلاّ هو مكتنف برداء رحمة الله، تعالى. فكلّ
شيء يعيش على رحمة الله تعالى وبرحمته. والإقرار بالرحمة الإلهيّة إقرار بالعطف
والحنان الإلهيّين، إقرار بالفضل والمنّ الإلهيّين... إلخ.
هذا الإقرار الّذي يفتح الطريق واسعة أمام علاقة مودّة ـــ حميميّة مع الله، سبحانه
وتعالى. فكما مودّة الأمّ والأب، وكما حنان وعطف ورحمة الأبوّة والأمومة تربط
الأبناء بالآباء في علاقة مودّة حميمة، علاقة جذب وترابط وإجلال واحترام، فإنّ
انفضاض قلب الإنسان عن الشعور بالرحمة الإلهية، لهو الطريق لعلاقة انجذاب روحيّ
ومعنويّ نحو الله تعالى، ومبعث إجلال وتعظيم واحترام له سبحانه وتعالى.
وفي جانبٍ آخر، إنّ شعور الواحد منّا بأنّه دائماً في قلب الرحمة الإلهية، يوقد في
فؤاده وعقله جذوة أمل لا تنطفئ. فإذا ما أحاطت به ظلمات الذنوب والمعاصي، فلا يقنط
ولا ييأس، لأنَّ إشراقات الرّحمة الإلهيّة تبقى تلمع في سماء حياته المكفهّرة،
تدلّه على الطريق، تماماً كما يرشد ضوء المنارات السّفن في اللّيالي الحالكة، فلا
نضلّ الطريق عن بلوغ مرفأ الأمان والسّلامة...
لهذا، ولغيره من أسباب، كان تقديم الرّحمة بين يدي الله، سبحانه وتعالى، في معرض
السؤال، لأنّ رحمته تعالى "وَسِعَتْ كلّ شيء"، فلا ريب في أنّها ستسعنا الآن وبعد
الآن.
*من كتاب: "في رحاب دعاء كميل".