وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في التعريف
مسألة 49: (المُضاربة) في اللغة: صيغة (مفاعلة) من ضارَبَ له في ماله، أي: اتَّجر له به؛ وأصلها من: (ضَرَبَ) في الأمر بسهم ونحوه، بمعنى: شارك فيه؛ أو من (ضَرَب) له في ماله أو غيره سهماً، بمعنى: عيَّنه له؛ وقد يقال له: (المقارضة) و(القراض) بنفس المعنى. والمضاربة في الشرع: (عقد مشاركة في الربح يكون المال فيه من شخص والعمل من الآخر).
وعند التأمل في هذا التعريف ومقارنته بما سبق ذكره عن الشركة العقدية يتبيّن لنا أن الشركة العقدية: تارة يتوافق الأطراف فيها على مجرد التشارك في المال كهدف مراد لهم بذاته، في حين لا يراد من المضاربة التشارك بين العامل وصاحب المال برأس المال، وإن لزم منها المشاركة بينهما في الربح عند حصوله، إذ هو أمر آخر غير رأس المال.
وتارة أخرى: يتوافق الأطراف على الإتجار بالمال المشترك بأية طريقة من طرق الإتجار والاستنماء، على أن يكون الربح بينهم والخسارة عليهم، فيما الأمر في المضاربة كما يلي:
أ ـ إنه اتجار بمال قد يكون لواحد وقد يكون مشتركاً، فلا تلحظ فيه خصوصية كونه مشتركاً.
ب ـ إن الاستثمار في المضاربة يقتصر على الإتجار دون غيره، كالمزارعة ونحوها.
ج ـ إن الربح في المضاربـة وإن كان بين العامل وصاحب المال لكن الخسارة على صاحب المال وحده.
د ـ إن العمل في المضاربة من غير صاحب المال، فيما إنه قد يكون في الشركة العقدية من أحد الشركاء أو من غيرهم.
هذا، وقد تلتقي الشركة العقدية مع المضاربة في مورد واحد، وذلك كأن يكون المال مشتركاً بين جماعة، فيعمدون إلى المضاربة بأموالهم مجتمعين أو منفردين عند عامل واحد بهدف استثمارها وتنميتها، فإن كان العامل من غيرهم ـ كما هو الوضع الطبيعي والصحيح ـ وربح المال تارة وخسر أخرى، كان الربح بينهم وبين العامل، فيتوزعون حصتهم منه فيما بينهم على حسب نصيب كل منهم في رأس المال أو بنحو آخر، كما سيأتي بيانه، فيما ينفرد العامل بحصته منه، وأما الخسارة فهي بينهم كذلك دون أن يلحق العامل منها شيء. هذا إذا كان العامل من غيرهم، أما إذا رغبوا أن يكون العامل واحداً منهم فلا بد أن يضاربوه على غير حصته من المال المشاع بينهم، ولهم أن يأذنوا له بالمتاجرة بحصته بنحو مستقل حين عمله لهم، وحينئذ يكون له نصيبه من ربح حصصهم دون خسارتها، فيما يكون له تمام ربح حصته وعليه تمام خسارتها.
إضافة إلى ذلك فإنَّه يجب الالتفات إلى تَميُّز المضاربة بالمعنى الذي بيناه عن معاملة شبيهة بها يُصطلح عليها بــ (البضاعة)، والبضاعة هي: (اتفاق يقتضي قيام العامل بالمتاجرة بالمال، على أن يكون تمام الربح للمالك، إما مجاناً أو بعوض)، وهي معاملة صحيحة ومختلفة عن المضاربة بأنها لا تشتمل على عنصر المضاربة الأساسي، وهو: (المشاركـة) في الربـح، بـل هي ـ في حال أَخْذ العامل أجرةً ـ فرع من فروع مباحث الإجارة. وسيتبيّن لاحقاً أنَّ مدى وأُفق الشروط التي يصح التراضي عليها تحت عنوان معاملة (البضاعة) أوسع منها في المضاربة، وبخاصة لجهـة فـرض مقدار مُعين للعامـل من المـال، و ـ أيضاً ـ لجهة إمكان إشراك العامل في ضمان تمام الخسارة أو جزء منها، وغير ذلك من الأمور التي لا تصح في المضاربة.
المطلب الثاني: في العقد
مسألة 50: يتحقّق عقد المضاربة بالإيجاب من المالك بكل لفظ يدل عليه، مثل: (ضاربتك)، أو: (قارضتك)، أو: (اتجر بهذا المال)، أو نحو ذلك، وبالقبول من العامل بكل لفظ يدل عليه؛ بل تتحقّق المضاربة بالمعاطاة، فيُسلِّم المالك ماله قاصداً الإتجار به ويتسلمه العامل قاصداً قبول ذلك.
ويعتبر فيه ما يعتبر في أمثاله من العقود المالية، من العقل والقصد والاختيار وإذن الولي إذا كان العاقد صبياً، وعدم الحجر على المالك لسفهٍ أو فلس، أما العامل فلا يعتبر فيه ذلك إذا لم تستلزم المضاربة تصرفاً بماله.
مسألة 51: المضاربة معاملة مستقلة كالإجارة ونحوها من العقود، وإذا وقع العقد مستكملاً لشروطه وقع لازماً، فلا ينفسخ إلا بالتقايل أو بالخيار أو بانتهاء الأجل إذا جعلا له أجلاً.
مسألة 52: إذا أوقعا عقد المضاربة على مقدار معيّن من المال، كألف دينار، ثم بعد مدة رغب المالك في زيادة رأس المال، لم يكن في ذلك بأس، فتدخل الزيادة في المضاربة المنعقدة دون حاجة لإنشاء عقد خاص بها، وتجري عليها جميع أحكامها؛ وآكد من ذلك في عدم الإحتياج لعقد جديد ما لو وقعت المضاربة على خمسة آلاف دينار، وصار يدفعها للعامل مقسطة، فإن الجميع مندرج في مضاربة واحدة.
مسألة 53: يجوز لكلٍ من المتعاقدين أن يشترط على الآخر في ضمن عقد المضاربة ما يشاء من الشروط السائغة، فيصح أن يشترط عليه مالاً نقداً أو عيناً أو منفعة، أو عملاً كالخياطة والتعليم ونحوهما، أو إيقاع معاملة كالبيع والصلح والوكالة والقرض ونحوها، فإذا رضي بالشرط وجب عليه الوفاء به ما دام العقد باقياً لم يفسخ، سواء تحقّق لهما ما يرجوان من ربح أو لم يتحقّق.
مسألة 54: إذا ضارب شخص شخصاً آخر بمال غيره فضولاً دون ولاية عليه ولا وكالة عنه، وقعت المضاربة فضولية، فإن أجازها المالك صحت كما وقعت وترتبت عليها آثارها، وأما إذا ردها فإن حكمها يختلف على أنحاء من جهتين:
الجهة الأولى: ما بين المالك والمضارب والعامل، وهي على نحوين:
الأول: ما إذا كان الرد قبل قيام العامل بالإتجار بالمال، فيجب عليه رده إليه إن كان سالماً، أوْ ردُّ مثله أو قيمته إن كان تالفاً، ويحق للمالك أن يرجع على المضارب أو على العامل بالنحو المقرر في أحكام ضمان التلف.
الثاني: ما إذا كان الرد بعد أن اتجر به العامل وباع واشترى، فهنا يحكم بكون معاملة البيع ـ مثلاً ـ فضولية، فإن شاء المالك أمضاها وكان له تمام الربح وعليه تمام الخسارة، وإن شاء ردها ورجع بماله إن كان موجوداً أو بمثله أو قيمته إن كان تالفاً، وذلك بالنحو الذي ذكر في النحو الأول؛ هذا، ولا يضر بالإمضاء أو بالرد ما لو لاحظ المالك مصلحته، فيمضيها حيث تكون رابحة، ويَردُّها حيث تكون خاسرة.
الجهة الثانية: ما بين العامل والمضارب، فإنَّ العامل إذا لم يعمل شيئاً لم يستحق على المضارب شيئاً، وكذا لو عمل وكان عالماً بأن المضاربة فضولية، وأما إذا عمل فيها جاهلاً بالحال فإنه يستحق على المضارب أقل الأمرين من أجرة مثل عمله ومن الحصة المقررة له من الربح إن ربح، فإن لم يكن قد ربح شيئاً لم يستحق شيئاً.
مسألة 55: لا يجوز للعامل أن يضارب غيره بمال المالك ليكون ذلك الغير عاملاً منفرداً عند صاحب المال من دون إذنه، وكذا لا يجوز أن يضاربه على أن يكون شريكاً معه في العمل عند صاحب المال بدون إذنه، فإن أذن له بعد أن ضارب غيره بهذا النحو، أو ضاربه بعد الإذن، ترتب عليه فسخ المضاربة الأولى القائمة بين المالك والعامل وقيام مضاربة جديدة بين المالك والعامل الثاني، أو بين المالك من جهة وبين العامل الأول والثاني على نحو الاشتراك من جهة أخرى. أما إذا أوقع مضاربة بمال المالك مع عامل آخر ليكون مساعداً له وعاملاً عنده، فالظاهر الصحة.
المطلب الثالث: في الشروط
مسألة 56: يعتبر في المضاربة أمور:
الأول: أن يقتصر استثمار المال على الإتجار به دون ما عداه من وجوه الاستنماء؛ فلا تتحقّق المضاربة فيما لو تعاقدا على استثمار المال في الزراعة، بل يكون ـ حينئذ ـ مزارعة إن جعل أجرته حصة من حاصلها معينة بالكسور، وإجارة إن جعل الأجرة على خلاف ذلك، عيناً أو منفعة؛ كما لا تتحقّق المضاربة بما لو تعاقدا على أن يشتري العامل شيئاً بمال المالك للاستفادة من نمائه، كالأغنام والدجاج للاستفادة من نتاجها بيضاً وصوفاً ولبناً وفراخاً وسخالاً، وكالسيارات أو الدور يشتريها بالمال ليؤجرها وينتفع بأجرتها، وكالآلات الخاصة بحرفة الحدادة أو النجارة أو الصيد أو غيرها يشتريها العامل الحِرَفيُّ ليعمل فيها في حرفته؛ وما أشبه ذلك من وجوه استنماء المال في غير الإتجار، فإنها لا تكون مضاربة، بل هي جعالة إن حدَّد ربح العامل بحصة منه معينة بالكسور، وهي إجارة إن عينها بغير ذلك، عيناً أو منفعة.
الثاني: أن يكون العامل قادراً على القيام بالتجارة بالوجه المطلوب منه بنفسه أو بغيره، فإن لم يشترط عليه مباشرة التجارة بنفسه، وظهر عجزه عنها ولو مع الاستعانة بالغير، بطلت المضاربة من رأسٍ إن كان عاجزاً من الأول، وبطلت من حين الإنكشاف إن طرأ العجز في الأثناء. وكذا تبطل إذا جعل مباشرة العامل لها بنفسه قيداً في أصل المعاملة فعجز عن مباشرتها، فيما يكون للمالك خيار الفسخ إذا جعل المباشرة شرطاً فعجز العامل عنها.
الثالث: أن يكون مال المضاربة عيناً خارجية، نقداً أو بضاعة، فكما تتحقّق بالنقد المعدني أو الورقي تتحقّق بما لو دفع إليه قمحاً أو سيارة أو ثياباً أو داراً ليتجر بها ويتداولها في البيع والشراء، كما لو كانت نقداً. فإن لم تكن عيناً بل منفعة لم تصح المضاربة بها بما هي عليه من عنوان المنفعة رغم إمكان مبادلتها بشيء آخر، على الأحوط وجوباً، نعم تصح المضاربة على أجرتها، كأن يقول له: (خذ منفعة داري هذا فأجّره وضارب على أجرته). وإن لم يكن عيناً خارجية بل كان ديناً في الذمة، ولوحظ في قيام العامل بالمضاربة عليه حالةُ قبضه، صحت المضاربة عليه وهو ما يزال ديناً، بحيث يتضمن إنشاءُ المضاربة عليه من قبل الدائن توكيلَ العامل بقبض الدين نيابة عنه بعد تعيينه وعزله، ثم الإتجار به، دون ضرورة لأن يُنشيء العامل ـ مديناً كان أو غيره ـ عقد المضاربة بطرفيه؛ وكذا تصح المضاربـة ـ على الأقـرب ـ إذا لم يلاحَظ في المضاربة على الدين قيام العامل بها بعد قبضه، بل لوحظت المضاربة عليه بالبيع والشراء حالة كونه ما يزال ديناً.
الرابع: أن يكون المال معلوماً قدراً ووصفاً. وإذا كان للمالك أموال متعددة وجب تعيين ما يكون منها للمضاربة، إلا أن تتساوى الأموال في الوصف والمقدار فلا يجب ـ حينئذ ـ تعيين كون المضاربة بهذا المال أو بذاك، فلو كان عنده محفظتان تحتوي كل منهما على ألف دينار، وضاربه على أحدهما دون تعيين صحت، وإن كان الأحوط استحباباً التعيين.
الخامس: أن يُجعل الربح فيها لمن قدَّم مالاً أو عملاً، وهو منحصر بطرفي العقد، وهما: صاحب المال والعامل، واحداً كان كل منهما أو متعدداً؛ فلو جعل أحدُهما نصيباً من الربح لشخص غيرهم دون أن يكون قد ساهم بمال، ولا اشتُرطَ عليه القيامُ بعمل من أعمال المضاربة، بطلت به المضاربة. وكذا تبطل المضاربة إذا اشترط المالك كون تمام الربح له، أما جعل تمام الخسارة على العامل فهو صحيح إذا جعل تمام الربح له كما سيأتي في الفقرة التالية.
السادس: أن يكون تعيين حصة كل منهما من الربح بالكسر لا بالرقم الصحيح، فيجعلها ثلثاً أو نصفاً، أو ثلاثة من كل مئة، أو نحو ذلك، فلو عينها بالأرقـام الصحيحـة ـ كألف دينـار مثـلاً ـ بطلت المضاربة. هذا، ويغني عن التصريح بمقدار الحصة بذلك النحو كونُه ملحوظاً ضمناً بسبب التعارف الخارجي، كأن يتعاقدا على المضاربة في بلد يعلمان أنَّ العرف فيه هو جعل حصة العامل ثلثاً، فإذا لم يعينا حصة العامل ـ وحالهما هذه ـ ثبت له ثلث الربح.
أما الخسارة فهي بتمامها على صاحب المال، فلو شرط على العامل مشاركته بنصيب من الخسارة يؤخذ من حصته من الربح بطل الشرط، ولم يُلزم بها العامل، بل يَشْكُل الحكم بصحة الشرط إذا جعلها في ماله لا في ربحه. نعم لو شرط عليه أن يتحمل تمام الخسارة على أن يكون له تمام الربح صح الشرط.
مسألة 57: لا يشترط لفظ خاص في تحديد نسبة الربح، بل يكفي كل لفظ يدل عليها عرفاً، فلو تراضيا على أن يكون لكل منهما نصف الربح كفى في الدلالة عليه أن يقول: (... والربح بيننا)، أو: (... ولك نصف ربحه)، أو: (... ولك ربح نصفه)، أو نحو ذلك.
مسألة 58: تصح المضاربة على حصة من المال المشاع قبل فرزه، بل يمكنه تداول تلك الحصة بالبيع والشراء وهي على حالتها تلك، إلا أن يرغب العامل في فرزها والانفراد بها ليسهل عليه الإتجار بها، فإن له ـ حينئذ ـ أن يطلب القسمة.
مسألة 59: لا يعتبر في صحة المضاربة أن يكون المال في يد المالك ولا في يد العامل، بل تصح المضاربة من قبل المالك إذا كان ماله في يد غيره أمانة أو نحوها؛ وكذا يصح قيام العامل بالمضاربة إذا كان المال ما يزال في يد المالك.
مسألة 60: يجوز في المضاربة الواحدة تعدد العامل، سواءً اتحد المالك أو تعدد، فيتقاسم العمال فيما بينهم نصيبهم من الربح بالتساوي أو بالتفاضل، بالنحو الذي تعاقدوا عليه مع المالك.
وكذا يجوز في المضاربة تعدد المالكين، سواءً اتحد العامل أو تعدد، ويتحقّق هذا الفرض في صور:
الأولى: أن يكون المال مشتركاً بينهم قبل المضاربة، ويضاربون بعقد واحد عاملاً واحداً أو أكثر.
الثانية: أن يكون المال كما في الصورة الأولى، ويضارب كل واحد من الشركاء منفرداً نفس العامل.
الثالثة: أن لا يكون المال مشتركاً، ويضارب أكثر من مالك نفس العامل، ويشترط العامل عليهم أن يخلط مال كل واحد منهم بمال الآخر، بحيث يصير المال مشتركاً بفعل العامل وبعد إنشاء عقد المضاربة.
فتصح المضاربة في هذه الصور الثلاث مهما كانت الكيفية التي يتوافقون عليها لتوزيع الربح بينهم في نصيبهم كمالكين، بما في ذلك ما لو تفاضلوا فيها مع تساوي حصة كل منهم في رأس المال، وتساوي نسبة الربح التي أعطاها كل واحد منهم للعامل، وعدم تقديم آخذ الزيادة شيئاً دون الآخرين في عملية المضاربة من عين أو منفعة.
ولا يخفى أن جواز التفاضل في ربح الشركاء من المضاربة في الصورتين الأولى والثانية مستثنى مما سبق ذكره في باب الشركة في (المسألة: 9)، فراجعه.
كما أنه ينبغي الالتفات إلى أن مورد الكلام في جواز التفاضل في حصص المالكين وعدمه إنما هو في غير صورة حدوث التفاضل بينهم طبيعياً بسبب اختلاف نسبة ما أعطاه كل واحد منهم من ربح للعامل عما أعطاه الآخر له، إذ إن كل زيادة منه عن غيره في حصة العامل هي نقص طبيعي في حصته.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في التعريف
مسألة 49: (المُضاربة) في اللغة: صيغة (مفاعلة) من ضارَبَ له في ماله، أي: اتَّجر له به؛ وأصلها من: (ضَرَبَ) في الأمر بسهم ونحوه، بمعنى: شارك فيه؛ أو من (ضَرَب) له في ماله أو غيره سهماً، بمعنى: عيَّنه له؛ وقد يقال له: (المقارضة) و(القراض) بنفس المعنى. والمضاربة في الشرع: (عقد مشاركة في الربح يكون المال فيه من شخص والعمل من الآخر).
وعند التأمل في هذا التعريف ومقارنته بما سبق ذكره عن الشركة العقدية يتبيّن لنا أن الشركة العقدية: تارة يتوافق الأطراف فيها على مجرد التشارك في المال كهدف مراد لهم بذاته، في حين لا يراد من المضاربة التشارك بين العامل وصاحب المال برأس المال، وإن لزم منها المشاركة بينهما في الربح عند حصوله، إذ هو أمر آخر غير رأس المال.
وتارة أخرى: يتوافق الأطراف على الإتجار بالمال المشترك بأية طريقة من طرق الإتجار والاستنماء، على أن يكون الربح بينهم والخسارة عليهم، فيما الأمر في المضاربة كما يلي:
أ ـ إنه اتجار بمال قد يكون لواحد وقد يكون مشتركاً، فلا تلحظ فيه خصوصية كونه مشتركاً.
ب ـ إن الاستثمار في المضاربة يقتصر على الإتجار دون غيره، كالمزارعة ونحوها.
ج ـ إن الربح في المضاربـة وإن كان بين العامل وصاحب المال لكن الخسارة على صاحب المال وحده.
د ـ إن العمل في المضاربة من غير صاحب المال، فيما إنه قد يكون في الشركة العقدية من أحد الشركاء أو من غيرهم.
هذا، وقد تلتقي الشركة العقدية مع المضاربة في مورد واحد، وذلك كأن يكون المال مشتركاً بين جماعة، فيعمدون إلى المضاربة بأموالهم مجتمعين أو منفردين عند عامل واحد بهدف استثمارها وتنميتها، فإن كان العامل من غيرهم ـ كما هو الوضع الطبيعي والصحيح ـ وربح المال تارة وخسر أخرى، كان الربح بينهم وبين العامل، فيتوزعون حصتهم منه فيما بينهم على حسب نصيب كل منهم في رأس المال أو بنحو آخر، كما سيأتي بيانه، فيما ينفرد العامل بحصته منه، وأما الخسارة فهي بينهم كذلك دون أن يلحق العامل منها شيء. هذا إذا كان العامل من غيرهم، أما إذا رغبوا أن يكون العامل واحداً منهم فلا بد أن يضاربوه على غير حصته من المال المشاع بينهم، ولهم أن يأذنوا له بالمتاجرة بحصته بنحو مستقل حين عمله لهم، وحينئذ يكون له نصيبه من ربح حصصهم دون خسارتها، فيما يكون له تمام ربح حصته وعليه تمام خسارتها.
إضافة إلى ذلك فإنَّه يجب الالتفات إلى تَميُّز المضاربة بالمعنى الذي بيناه عن معاملة شبيهة بها يُصطلح عليها بــ (البضاعة)، والبضاعة هي: (اتفاق يقتضي قيام العامل بالمتاجرة بالمال، على أن يكون تمام الربح للمالك، إما مجاناً أو بعوض)، وهي معاملة صحيحة ومختلفة عن المضاربة بأنها لا تشتمل على عنصر المضاربة الأساسي، وهو: (المشاركـة) في الربـح، بـل هي ـ في حال أَخْذ العامل أجرةً ـ فرع من فروع مباحث الإجارة. وسيتبيّن لاحقاً أنَّ مدى وأُفق الشروط التي يصح التراضي عليها تحت عنوان معاملة (البضاعة) أوسع منها في المضاربة، وبخاصة لجهـة فـرض مقدار مُعين للعامـل من المـال، و ـ أيضاً ـ لجهة إمكان إشراك العامل في ضمان تمام الخسارة أو جزء منها، وغير ذلك من الأمور التي لا تصح في المضاربة.
المطلب الثاني: في العقد
مسألة 50: يتحقّق عقد المضاربة بالإيجاب من المالك بكل لفظ يدل عليه، مثل: (ضاربتك)، أو: (قارضتك)، أو: (اتجر بهذا المال)، أو نحو ذلك، وبالقبول من العامل بكل لفظ يدل عليه؛ بل تتحقّق المضاربة بالمعاطاة، فيُسلِّم المالك ماله قاصداً الإتجار به ويتسلمه العامل قاصداً قبول ذلك.
ويعتبر فيه ما يعتبر في أمثاله من العقود المالية، من العقل والقصد والاختيار وإذن الولي إذا كان العاقد صبياً، وعدم الحجر على المالك لسفهٍ أو فلس، أما العامل فلا يعتبر فيه ذلك إذا لم تستلزم المضاربة تصرفاً بماله.
مسألة 51: المضاربة معاملة مستقلة كالإجارة ونحوها من العقود، وإذا وقع العقد مستكملاً لشروطه وقع لازماً، فلا ينفسخ إلا بالتقايل أو بالخيار أو بانتهاء الأجل إذا جعلا له أجلاً.
مسألة 52: إذا أوقعا عقد المضاربة على مقدار معيّن من المال، كألف دينار، ثم بعد مدة رغب المالك في زيادة رأس المال، لم يكن في ذلك بأس، فتدخل الزيادة في المضاربة المنعقدة دون حاجة لإنشاء عقد خاص بها، وتجري عليها جميع أحكامها؛ وآكد من ذلك في عدم الإحتياج لعقد جديد ما لو وقعت المضاربة على خمسة آلاف دينار، وصار يدفعها للعامل مقسطة، فإن الجميع مندرج في مضاربة واحدة.
مسألة 53: يجوز لكلٍ من المتعاقدين أن يشترط على الآخر في ضمن عقد المضاربة ما يشاء من الشروط السائغة، فيصح أن يشترط عليه مالاً نقداً أو عيناً أو منفعة، أو عملاً كالخياطة والتعليم ونحوهما، أو إيقاع معاملة كالبيع والصلح والوكالة والقرض ونحوها، فإذا رضي بالشرط وجب عليه الوفاء به ما دام العقد باقياً لم يفسخ، سواء تحقّق لهما ما يرجوان من ربح أو لم يتحقّق.
مسألة 54: إذا ضارب شخص شخصاً آخر بمال غيره فضولاً دون ولاية عليه ولا وكالة عنه، وقعت المضاربة فضولية، فإن أجازها المالك صحت كما وقعت وترتبت عليها آثارها، وأما إذا ردها فإن حكمها يختلف على أنحاء من جهتين:
الجهة الأولى: ما بين المالك والمضارب والعامل، وهي على نحوين:
الأول: ما إذا كان الرد قبل قيام العامل بالإتجار بالمال، فيجب عليه رده إليه إن كان سالماً، أوْ ردُّ مثله أو قيمته إن كان تالفاً، ويحق للمالك أن يرجع على المضارب أو على العامل بالنحو المقرر في أحكام ضمان التلف.
الثاني: ما إذا كان الرد بعد أن اتجر به العامل وباع واشترى، فهنا يحكم بكون معاملة البيع ـ مثلاً ـ فضولية، فإن شاء المالك أمضاها وكان له تمام الربح وعليه تمام الخسارة، وإن شاء ردها ورجع بماله إن كان موجوداً أو بمثله أو قيمته إن كان تالفاً، وذلك بالنحو الذي ذكر في النحو الأول؛ هذا، ولا يضر بالإمضاء أو بالرد ما لو لاحظ المالك مصلحته، فيمضيها حيث تكون رابحة، ويَردُّها حيث تكون خاسرة.
الجهة الثانية: ما بين العامل والمضارب، فإنَّ العامل إذا لم يعمل شيئاً لم يستحق على المضارب شيئاً، وكذا لو عمل وكان عالماً بأن المضاربة فضولية، وأما إذا عمل فيها جاهلاً بالحال فإنه يستحق على المضارب أقل الأمرين من أجرة مثل عمله ومن الحصة المقررة له من الربح إن ربح، فإن لم يكن قد ربح شيئاً لم يستحق شيئاً.
مسألة 55: لا يجوز للعامل أن يضارب غيره بمال المالك ليكون ذلك الغير عاملاً منفرداً عند صاحب المال من دون إذنه، وكذا لا يجوز أن يضاربه على أن يكون شريكاً معه في العمل عند صاحب المال بدون إذنه، فإن أذن له بعد أن ضارب غيره بهذا النحو، أو ضاربه بعد الإذن، ترتب عليه فسخ المضاربة الأولى القائمة بين المالك والعامل وقيام مضاربة جديدة بين المالك والعامل الثاني، أو بين المالك من جهة وبين العامل الأول والثاني على نحو الاشتراك من جهة أخرى. أما إذا أوقع مضاربة بمال المالك مع عامل آخر ليكون مساعداً له وعاملاً عنده، فالظاهر الصحة.
المطلب الثالث: في الشروط
مسألة 56: يعتبر في المضاربة أمور:
الأول: أن يقتصر استثمار المال على الإتجار به دون ما عداه من وجوه الاستنماء؛ فلا تتحقّق المضاربة فيما لو تعاقدا على استثمار المال في الزراعة، بل يكون ـ حينئذ ـ مزارعة إن جعل أجرته حصة من حاصلها معينة بالكسور، وإجارة إن جعل الأجرة على خلاف ذلك، عيناً أو منفعة؛ كما لا تتحقّق المضاربة بما لو تعاقدا على أن يشتري العامل شيئاً بمال المالك للاستفادة من نمائه، كالأغنام والدجاج للاستفادة من نتاجها بيضاً وصوفاً ولبناً وفراخاً وسخالاً، وكالسيارات أو الدور يشتريها بالمال ليؤجرها وينتفع بأجرتها، وكالآلات الخاصة بحرفة الحدادة أو النجارة أو الصيد أو غيرها يشتريها العامل الحِرَفيُّ ليعمل فيها في حرفته؛ وما أشبه ذلك من وجوه استنماء المال في غير الإتجار، فإنها لا تكون مضاربة، بل هي جعالة إن حدَّد ربح العامل بحصة منه معينة بالكسور، وهي إجارة إن عينها بغير ذلك، عيناً أو منفعة.
الثاني: أن يكون العامل قادراً على القيام بالتجارة بالوجه المطلوب منه بنفسه أو بغيره، فإن لم يشترط عليه مباشرة التجارة بنفسه، وظهر عجزه عنها ولو مع الاستعانة بالغير، بطلت المضاربة من رأسٍ إن كان عاجزاً من الأول، وبطلت من حين الإنكشاف إن طرأ العجز في الأثناء. وكذا تبطل إذا جعل مباشرة العامل لها بنفسه قيداً في أصل المعاملة فعجز عن مباشرتها، فيما يكون للمالك خيار الفسخ إذا جعل المباشرة شرطاً فعجز العامل عنها.
الثالث: أن يكون مال المضاربة عيناً خارجية، نقداً أو بضاعة، فكما تتحقّق بالنقد المعدني أو الورقي تتحقّق بما لو دفع إليه قمحاً أو سيارة أو ثياباً أو داراً ليتجر بها ويتداولها في البيع والشراء، كما لو كانت نقداً. فإن لم تكن عيناً بل منفعة لم تصح المضاربة بها بما هي عليه من عنوان المنفعة رغم إمكان مبادلتها بشيء آخر، على الأحوط وجوباً، نعم تصح المضاربة على أجرتها، كأن يقول له: (خذ منفعة داري هذا فأجّره وضارب على أجرته). وإن لم يكن عيناً خارجية بل كان ديناً في الذمة، ولوحظ في قيام العامل بالمضاربة عليه حالةُ قبضه، صحت المضاربة عليه وهو ما يزال ديناً، بحيث يتضمن إنشاءُ المضاربة عليه من قبل الدائن توكيلَ العامل بقبض الدين نيابة عنه بعد تعيينه وعزله، ثم الإتجار به، دون ضرورة لأن يُنشيء العامل ـ مديناً كان أو غيره ـ عقد المضاربة بطرفيه؛ وكذا تصح المضاربـة ـ على الأقـرب ـ إذا لم يلاحَظ في المضاربة على الدين قيام العامل بها بعد قبضه، بل لوحظت المضاربة عليه بالبيع والشراء حالة كونه ما يزال ديناً.
الرابع: أن يكون المال معلوماً قدراً ووصفاً. وإذا كان للمالك أموال متعددة وجب تعيين ما يكون منها للمضاربة، إلا أن تتساوى الأموال في الوصف والمقدار فلا يجب ـ حينئذ ـ تعيين كون المضاربة بهذا المال أو بذاك، فلو كان عنده محفظتان تحتوي كل منهما على ألف دينار، وضاربه على أحدهما دون تعيين صحت، وإن كان الأحوط استحباباً التعيين.
الخامس: أن يُجعل الربح فيها لمن قدَّم مالاً أو عملاً، وهو منحصر بطرفي العقد، وهما: صاحب المال والعامل، واحداً كان كل منهما أو متعدداً؛ فلو جعل أحدُهما نصيباً من الربح لشخص غيرهم دون أن يكون قد ساهم بمال، ولا اشتُرطَ عليه القيامُ بعمل من أعمال المضاربة، بطلت به المضاربة. وكذا تبطل المضاربة إذا اشترط المالك كون تمام الربح له، أما جعل تمام الخسارة على العامل فهو صحيح إذا جعل تمام الربح له كما سيأتي في الفقرة التالية.
السادس: أن يكون تعيين حصة كل منهما من الربح بالكسر لا بالرقم الصحيح، فيجعلها ثلثاً أو نصفاً، أو ثلاثة من كل مئة، أو نحو ذلك، فلو عينها بالأرقـام الصحيحـة ـ كألف دينـار مثـلاً ـ بطلت المضاربة. هذا، ويغني عن التصريح بمقدار الحصة بذلك النحو كونُه ملحوظاً ضمناً بسبب التعارف الخارجي، كأن يتعاقدا على المضاربة في بلد يعلمان أنَّ العرف فيه هو جعل حصة العامل ثلثاً، فإذا لم يعينا حصة العامل ـ وحالهما هذه ـ ثبت له ثلث الربح.
أما الخسارة فهي بتمامها على صاحب المال، فلو شرط على العامل مشاركته بنصيب من الخسارة يؤخذ من حصته من الربح بطل الشرط، ولم يُلزم بها العامل، بل يَشْكُل الحكم بصحة الشرط إذا جعلها في ماله لا في ربحه. نعم لو شرط عليه أن يتحمل تمام الخسارة على أن يكون له تمام الربح صح الشرط.
مسألة 57: لا يشترط لفظ خاص في تحديد نسبة الربح، بل يكفي كل لفظ يدل عليها عرفاً، فلو تراضيا على أن يكون لكل منهما نصف الربح كفى في الدلالة عليه أن يقول: (... والربح بيننا)، أو: (... ولك نصف ربحه)، أو: (... ولك ربح نصفه)، أو نحو ذلك.
مسألة 58: تصح المضاربة على حصة من المال المشاع قبل فرزه، بل يمكنه تداول تلك الحصة بالبيع والشراء وهي على حالتها تلك، إلا أن يرغب العامل في فرزها والانفراد بها ليسهل عليه الإتجار بها، فإن له ـ حينئذ ـ أن يطلب القسمة.
مسألة 59: لا يعتبر في صحة المضاربة أن يكون المال في يد المالك ولا في يد العامل، بل تصح المضاربة من قبل المالك إذا كان ماله في يد غيره أمانة أو نحوها؛ وكذا يصح قيام العامل بالمضاربة إذا كان المال ما يزال في يد المالك.
مسألة 60: يجوز في المضاربة الواحدة تعدد العامل، سواءً اتحد المالك أو تعدد، فيتقاسم العمال فيما بينهم نصيبهم من الربح بالتساوي أو بالتفاضل، بالنحو الذي تعاقدوا عليه مع المالك.
وكذا يجوز في المضاربة تعدد المالكين، سواءً اتحد العامل أو تعدد، ويتحقّق هذا الفرض في صور:
الأولى: أن يكون المال مشتركاً بينهم قبل المضاربة، ويضاربون بعقد واحد عاملاً واحداً أو أكثر.
الثانية: أن يكون المال كما في الصورة الأولى، ويضارب كل واحد من الشركاء منفرداً نفس العامل.
الثالثة: أن لا يكون المال مشتركاً، ويضارب أكثر من مالك نفس العامل، ويشترط العامل عليهم أن يخلط مال كل واحد منهم بمال الآخر، بحيث يصير المال مشتركاً بفعل العامل وبعد إنشاء عقد المضاربة.
فتصح المضاربة في هذه الصور الثلاث مهما كانت الكيفية التي يتوافقون عليها لتوزيع الربح بينهم في نصيبهم كمالكين، بما في ذلك ما لو تفاضلوا فيها مع تساوي حصة كل منهم في رأس المال، وتساوي نسبة الربح التي أعطاها كل واحد منهم للعامل، وعدم تقديم آخذ الزيادة شيئاً دون الآخرين في عملية المضاربة من عين أو منفعة.
ولا يخفى أن جواز التفاضل في ربح الشركاء من المضاربة في الصورتين الأولى والثانية مستثنى مما سبق ذكره في باب الشركة في (المسألة: 9)، فراجعه.
كما أنه ينبغي الالتفات إلى أن مورد الكلام في جواز التفاضل في حصص المالكين وعدمه إنما هو في غير صورة حدوث التفاضل بينهم طبيعياً بسبب اختلاف نسبة ما أعطاه كل واحد منهم من ربح للعامل عما أعطاه الآخر له، إذ إن كل زيادة منه عن غيره في حصة العامل هي نقص طبيعي في حصته.