المبحث الخامس: في القرابة ولواحقها

ونريد به بيان ما يترتب على الزواج من أثر في نشوء أنواع من صلة القربى القائمة بين الناس، وهي: المصاهرة والنسب والرضاع، وكذا بيان ما له صلة ببعضها، كالحمل والولادة، وهي الأمور التي نفصلها في أربعة مطالب على النحو التالي:
المطلب الأول: في المصاهرة
مسألة 783: (المصاهرة) اسم للصلة الحادثة بالزواج بين أحد الزوجين وبعض أقارب الآخر، والتي تتعدد تسمياتها في اللغة وفي العرف، من قبيل: الصهر والكَنَّة والربيبة والحم والحَماة وغيرها؛ وجميع القرابات الحادثة بالمصاهرة تتحقّق بمجرد العقد، كما أن أثرها في نشر حرمة الزواج بين أحد الزوجين وبين بعض هؤلاء الأقـارب بالنحـو الـذي بينـاه في الفصـل الأول، يتحقّـق ـ أيضاً ـ بمجرد العقد، ما عدا حرمة الربيبة على زوج الأم فإنها لا تتحقّق إلا بالدخول بالأم، وما عدا العقد أثناء مرض الموت ووفاة الرجل المريض قبل الدخول. ومن الراجح ذكر ما تتميز به قرابة المصاهرة بنحوٍ من الإجمال الذي يرجع في تفصيله إلى مواضعه من الأبواب التي سبقت والتي ستأتي، فنقول:
أولاً: تنتشر الحرمة الذاتية بالمصاهرة في دائرة هي أضيق من دائرة انتشارها بالنسب أو الرضاع، فتحرم الزوجة على والد الزوج وإن علا، وعلى ولده وإن نزل، دون غيرهما ممن قِبَلَه من الرجال، ويحرم الزوج على أم الزوجة وإن علت وعلى بنتها وإن نزلت، دون غيرهما ممن قِبَلَها من النساء، وكما يحرم التزوج ممن ذكر فإنهم يصيرون من المحارم الذين تجوز مصافحتهم والنظر إلى بعض ما لا يجوز النظر إليه من غيرهم.
وأما الحرمة العارضة بالمصاهرة، كالجمع بين الأختين أو بين العمة وابنة أخيها والخالة وابنة أختها، فإنها لمَّا كانت مؤقتة ومرهونة بالجمع بينهن مطلقاً، أو بالجمع بينهن بدون إذنهن، لا تصير الأطراف فيها من المحارم، فلا تحل أخت الزوجة نظراً ولمساً، ولا ابنة أخيها أو أختها كذلك، على الزوج، بل يبقى أجنبياً عنهن. وهذا الجانب قد عرضنا له تفصيلياً في مباحث الفصل الأول المتقدمة.
ثانياً: رغم أن بعض الأقارب يصيرون بالمصاهرة من المحارم، فإن وجوب صلة الرحم لا يشملهم، لاختصاصه بالأقارب نسباً لا مصاهرة، نعم ينبغي وصلهم والبر بهم تحت عناوين أخلاقية عامة تساهم في إشاعة الألفة في الأسرة.
ثالثاً: لا توارث بين غير الزوجين من أهل القرابة الناتجة عن المصاهرة، فلا يرث الزوج والد زوجته ولا والدتها ولا ولدها من غيره، كما لا ترث الزوجة والد زوجها أو والدته أو ولده من غيرها، وهكذا سائر الموارد إلا أن ينطبق عليه عنوان آخر من عناوين أسباب الميراث، كعنوان (ضامن الجريرة) الذي يأتي بيانه في باب الميراث، والذي لا خصوصية فيه للقرابة الناتجة عن المصاهرة، بل هو شامل لكل من انطبق عليه العنوان المذكور. (أنظر المسألة: 1086 وما بعدها).
المطلب الثاني: في النسب
الفرع الأول: ما به يتحقّق النسب
ونريد به بيان حقيقة النسب المتقومة بتولد الإنسان من أبويه من نكاح أو سفاح، وبيان الأصل الذي يرتكز عليه إلحاق الولد بأبيه ونسبته إليه، والذي هو مضيُّ المدة التي يمكن تولده منه فيها، وذلك بمجرد مضيِّها أو مقروناً باللجوء إلى القرعة مع إمكان إلحاقه بأكثر من شخص، وهو ما نفصله في مسائل:
مسألة 784: (النسب) هو: (صلة القرابة الناتجة من تولد الإنسان من أبويه)، فتحدث بالولادة بُنوَّة الوليد لوالديه، وأبوة الوالد وأمومة الوالدة لولدهما، فإن وُلد لأبويه غيره تحقّقت بولادته الأخوة، فتكتمل بذلك أصول القرابة النسبية المباشرة، وهي: الأبوة والأمومة والبنوة والأخوة، وذلك إضافة إلى ما يتحقّق بالولادة من أنواع القرابة غير المباشرة، وهي التي تتمثل: في جانب الوالدين: بوالدي الأب ووالدي الأم مهما علوا، وهم الأجداد، وفي جانب الأبناء: بأبناء الإبن والبنت مهما نزلوا، وهم الأحفاد والأسباط، وفي جانب الإخوة: بأبناء الأخ والأخت مهما نزلوا، أو بلحاظ آخرٍ وهو وجود إخوة لآبائه وأمهاته مهما علوا، فيصير إخوة الآباء أعماماً لأولاد إخوتهم، وإخوة الأمهات أخوالاً لأولاد أخواتهم. وقد فصلنا ذكرهم في مباحث الفصل الأول عند الحديث عمن يحرم التزوج منه من المحارم.
مسألة 785:
تتميز القرابة النسبية بعدة آثار، وهي:
أولاً: إن دائرة من يحرم التزوج منه من الأقارب النسبيين أوسع منها في الأقارب من الرضاع أو المصاهرة، وهو أمر قد سبق ذكره. إضافة إلى ما يترتب على ذلك من كونه من المحارم الذين يحل النظر إلى ما يجب عليهم ستره من أجسادهم عن غير المحرم عدا العورة، وكذا لمسها.
ثانياً: وجوب البر بالولدين والأجداد، ووجوب صلة غيرهم من الأقارب ممن يراه العرف واجب الوصل منهم بالنحو الذي سيأتي.
ثالثاً: مسؤولية الوالدين والأجداد عن الأبناء في إطار الولاية عليهم وحضانتهم بالنحو الذي سيأتي بيانه؛ وقد تتوسع الولاية لتشمل غيرهم من الأقارب في باب شؤون تجهيز الميت.
رابعاً: مسؤولية كل من الآباء والأبناء عن الإنفاق على الآخر عند حاجته وعجزه عن تحصيل ما يعتاش به، كما سيأتي بيانه.
خامساً: مسؤولية الأقارب النسبيين بعضهم عن البعض الآخر عن جنايته على الآخرين خطأً، وهم (العاقلة) الواردة في باب الديات.
سادساً: توارث الأقارب فيما بينهم طبقة بعد طبقة على أساس قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنفال: 75].
وذلك بالنحو الذي سيأتي في باب المواريث.
مسألة 786: من المعلوم أنه لا تخفي نسبة الولد إلى أمه بعد وضوح تولده منها إلا في اللقيط الذي لا يعرف له أبوان، فيما قد يعتري الشكُّ نسبة الولد إلى أبيه، نظراً إلى طبيعة التناسل المتقومة بدخول نطفة الرجل إلى رحم المرأة واقترانها ببويضة المرأة، وهي من الأمور التي لا يمكن الجزم بها ـ غالباً ـ إلا اعتماداً على بعض القرائن، وإلا بعد ثبوت دخول نطفة هذا الرجل إلى رحم هذه المرأة بالجماع ونحوه؛ لذا فإنه لا بد لثبوت البنوة أو الأبوة بين الوالد وولده من توفر أمرين:
الأول: ثبوت وقوع مني هذا الرجل بالقذف في فرج هذه المرأة، أو على ظاهره، أو ثبوت دخول آلة الرجل الملوثة بالمني بعد قذفه خارج الفرج، أو ثبوت إدخال امرأة لمني الرجل المقذوف خارجاً إلى فرجها بواسطة آلةٍ أو نحوها، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يُعلم فيها بدخول مني هذا الرجل إلى فرج هذه المرأة. وذلك بغض النظر عن كون دخوله فيها بزواج أو سفاح، وبرضاً أو بدونه، ومع القصد أو بدونه.
الثاني: أن تمضي مدة من الزمن بين دخول المني بالنحو المذكور آنفاً وبين وضع الحمل لا تقل في حدها الأدنى عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة، وهي مدة أقل الحمل وأقصاه. فلو فرض أن رجلاً واقع زوجته، ثم مضى عنها مسافراً، فوضعت ولداً في غيبته بعد مضي السنة لم يكن ذلك الولد منه، وكذا لو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من تاريخ مواقعتها.
مسألة 787: إذا تحقّق هذان الأمران حكم بلحوق الولد بأبيه ونسبته له في حالتي كونه من نكاح شرعي أو من سفاح، وتفصيلهما كما يلي:
الحالة الأولى: يعتبر الولد (إبناً شرعياً) في كل حالة يكون انعقاد النطفة فيها عن نكاح بالعقد الصحيح، أو بالعقد الفاسد بواحد من أسباب الفساد التي ذكرناها ضمن المباحث المتقدمة مع جهل الزوجين بفساده؛ أو يكون عن نكاح بدون عقد لاشتباه الزوجة بغيرها بسبب الغفلة أو النوم أو الجنون أو غياب العقل بسبب من أسبابه، إلا ما يكون بتناول المسكر عمداً واختياراً؛ وكذا يكون الولد شرعياً في كل حالة يتم فيها إدخال نطفة الرجل في رحم المرأة بغير الجماع، أو تلقيحهما معاً خارج الرحم، سواءً كان بنطفة الزوج أو نطفة غيره، وسواءً كان حلالاً نفس الإدخال أو التلقيح أو حراماً.
الحالة الثانية: يعتبر الولد (إبن زنى) إذا تولد عن نكاح بدون عقد ولا شبهة، ومما يُعَدُّ بمنزلة (عدم العقد) ما لو كان نكاحهما عن عقد فاسد مع علمهما بفساده. كما أنه لا يعد من الشبهة ما لو ظن السكران الذي تعمد شرب الخمر أن هذه المـرأة زوجتـه فواقعهـا فحملت منـه، بـل يحكـم ـ حينئذ ـ بكون الولد من زنى، ولو من جهة أبيه فحسب إذا كانت أمه مشتبهة بشبهة يعتد بها. هذا، ولا يعد من الزنى مقاربة الزوج لزوجته التي حرم عليه وطؤها لعارض، كالحيض أو الإحرام أو نحوهما، وإن كان آثماً.
مسألة 788: كما يكون الولد ـ بمقتضى الحالتين المتقدمتين ـ إبناً شرعياً أو إبن زناً لكلا والديه، فإنه قد يكون ابناً شرعياً لأحدهما دون الآخر، فلو فرض أن أحد الوالدين كان مكرهاً على الزنى أو جاهلاً بفساد العقد أو مشتبهاً، دون الآخر، كان الولد إبناً شرعياً للمعذور في ذلك النكاح، وابن زناً لغير المعذور؛ ورغم ذلك فإن عنوان كونه ولداً شرعياً هو الذي يغلب عليه وتلحقه أحكامه المترتبة عليه بخصوصه، وهي الأمور المشروطة بطهارة المولد، كمرجعية الفتيا والقضاء وإمامة الجماعة وغيرها.
مسألة 789: لا يرفع عنوان (إبن الزنى) عن الولد ما لو تزوج الزاني بأمه بعد ما حملت منه.
مسألة 790: إذا زنى رجل بامرأة ثم تزوجها بعد ذلك، فإذا حملت منه بعد العقد عليها ولم يعلم كون الولد من النكاح المحرَّم أو المحلَّل حكم بأنه من المحلل واعتبر ولداً شرعياً.
مسألة 791: لا يمتد أثر الزنى في الأبناء والأحفاد، فمن كان والده ابن زنى فإنَّ ولدَهُ لا يكون كذلك إذا وُلِدَ من نكاح شرعي، وهكذا أحفاده.
مسألة 792: يثبت النسب بالزنى كثبوته بالبنوة الشرعية، ويترتب عليه جميع لوازم النسب، من حرمة التزوج منه، وثبوت حق الولاية عليه والحضانة له، ولزوم إنفاق القادر منهما على العاجز، وصلة الرحم، وغير ذلك، ما عدا الميراث، فإنَّ ولد الزنى لا يرث أبويه ولا يرثانه إن وقع الزنى منهما معاً، وإلا فإن كان الزنى من أحدهما دون الآخر ورث الولدُ المعذورَ من أبويه وورثه، دون الزاني.
كذلك فإن لحياته حرمةً هي كحرمة حياة الإبن الشرعي، ولذا فإنه لا يجوز للأم إسقاط جنينها من الزنى، ولو قبل ولوج الروح فيه، إلا في موارد معينة نذكرها في محلها، وتثبت الدية والقصاص في قتله كثبوتهما في الولد الشرعي.
مسألة 793: إن الأصل في نسبة الولد لأبيه هو كونه من نطفته، كما أن الأصل ـ عندنا ـ في نسبة الولد إلى أمه هو كونه من بويضتها، دون أن يكون لاحتضانها له في رحمها وتولده منها مدخلية في هذه النسبة؛ وعليه فإنه لو لجأ الزوجان العقيمان ـ طلباً للوَلَد ـ إلى الطريقة المعروفة بــ (الرحم المستعارة)، وهي: (أن يُؤخذ «حويمن» من الرجل «وبويضة» من المرأة التي تعاني من مشاكل في الرحم تمنعها من الإنجاب، فتوضع النطفتان في رحم امرأة ثانية، فتلد طفلاً)، كان الطفل المتولد من هذه المرأة الثانية هو إبن صاحب الحويمن حتماً، أما والدته فالظاهر أنها صاحبة البويضة، لا مَنْ حَضَنتْهُ في رحمها وَوَلَدتْهُ.
هذا، وإنما يجوز اللجوء إلى هذه الطريقة في صورة ما لو كان الرجل زوجاً لكلا المرأتين، ولم يكن إخراج النطفتين ولا إدخالهما في رحم المرأة الثانية مستلزماً للإستمناء المحرَّم أو لكشف المرأة عورتها على الطبيب الرجل، لكنهم لو خالفوا هذين الشرطين، وارتكبوا الحرام، لا يكون الولد إبن زناً، ويتحقّق به النسب أيضاً.
مسألة 794: كما يتحقّق النسب بين الولد وصاحبي النطفتين إذا تم تكونه في الرحم وتولده منه، فإنه يتحقّق ـ أيضاً ـ بما لو تم جمع النطفتين خارج الرحم بطريقة ما يعرف في زماننا بــ (التلقيح الصناعي)، وهو: (أن يؤخذ «حويمن» من الرجل و«بويضة» من المرأة، فيجمعا في أنبوب خاص مدة الحمل، فيتولد منهما طفلٌ إنساني سوي)، إن ذلك الطفل المتولد هو إبن صاحبي النطفتين، ويتحقّق بتولده منهما بهذا النحو جميع صلاة القربى التي تتحقّق للمتولد من رحم الأم وبويضتها.
هذا، وإنما يجوز ذلك في صورة ما لو كان صاحبا النطفتين زوجين، ولم يكن إخراج النطفتين مستلزماً للوقوع في محرَّم آخر، كأن يضطر الرجل إلى الاستمناء بغير يد الزوجة، أو تضطر الزوجة إلى كشف عورتها على الطبيب الرجل من غير ضرورة مبيحة؛ فإنْ كان أحد صاحبي النطفتين ليس زوجاً للآخر، أو استلزم الإخراج وقوع الحرام منهما أو من أحدهما، كان آثماً، ولم يكن الولد إبن زنى، وتحقّق به النسب أيضاً.
مسألة 795: إذا أخذت الزوجة «حويمن» زوجها الميت بعد وفاته، بعد ما كان محفوظاً في بنوك مخصصة لحفظه، فإن الولد الذي تضعه يلحق بأبيه وأمه، لكنه لا يرث من أبيه، كما أن جواز قيام المرأة بهذا العمل لا يخلو من إشكال، والأجدر بها أن تحتاط وجوباً بترك وضع الحويمن في رحمها بعد وفاة زوجها.
مسألة 796: إذا وَاقَعَ المرأةَ أكثرُ من رجل، ثم حملت، فلإلحاق الولد بأبيه عدة صور:
الأولى: أن يكون الرجل قد طلق زوجته المدخولَ بها دون أن يتبين لها حمل، فتعتدُّ منه وتتزوج بغيره بعد انقضاء العدة، ثم يبين حملُها ويظهر، فالمرجع في إلحاقه بأحدهما هو ما سبق ذكره، أي: ملاحظة مضي مدة الإلحاق التي لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة ما بين تحقّق الدخول أو ما بحكمه وما بين تولده؛ فينظر في هذه الصورة: فإن انطبق معيار الإلحاق على الزوج الثاني دون الأول، ألحق بالثاني دون إشكال، وإن انطبق على الأول دون الثاني، ألحق بالأول، لكن يلزم منه بطلان نكاح الثاني، لأن معنى كونها حاملاً من الأول هو أن عدتها منه بعد طلاقها هي أن تضع حملها، وحيث إن الثاني كان قد تزوجها قبل أن تضع حملها ودخل بها، فإن معنى ذلك أنه كان قد تزوجها في عدتها من طلاق زوجها الأول، فيبطل نكاحها من الثاني، ولكن لا تحرم عليه مؤبداً مع جهلهما بالحال كما هو فرض المسألة؛ وإن أمكن لحوقه بهما معاً، بأن كانت ولادته لستة أشهر من وطىء الثاني، ولدون السنة من وطىء الأول، ألحق بالثاني وكان ولده؛ وإن لم يمكن لحوقه بأحدهما، بأن ولدته لأزيد من السنة من وطىء الأول ولدون الستة أشهر من وطىء الثاني، لم يلحق بأحدهما، وكان أبوه غيرهما.
الثانية: أن يطلق الرجل زوجته الدائمة طلاقاً بائناً، أو يتوفى عنها، أو تكون متمتعاً بها فيهبها المدة أو تنتهي مدتها، فيطأُها رجل آخر أثناء عدتها وطئاً معذوراً فيه، أو تدخل في نفسها مني غير زوجها غفلة أو قصداً أو قهراً أثناء عدتها البائنة؛ وحكمها أنه يجري فيها ما ذكرناه في الصورة الأولى من الوجوه، غير أنه لو أمكن إلحاقه بكلا الرجلين لم يلحق هنا بالرجل الثاني كما هو حكم الصورة الأولى، بل يجب الإقراع بينهما.
الثالثة: أن تكون المرأة في عصمة زوجها، أو في عدة طلاقها الرجعي منه، فيطأُها رجل شبهةً، أو تدخل منيَّ غير زوجها في فرجها غفلة أو قهراً أو قصداً أثناء كونها معه أو في العدة الرجعية لطلاقها منه؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية. وكذا لو كان وطؤها بالزنى، غيرَ أنه في صورة ما لو أمكن إلحاقه بهما لا يقرع بينهما، بل يلحق بالزوج لأنه ولد على فراشه.
الرابعة: أن تكون المرأة خلية من الزوج ومن العدة، فيطأها عدة رجال شبهة أو زنى؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية، فيُنظر إن كان يمكن لحوقه بواحد منهم بعينه فيلحق به، وإن كان لا يمكن إلحاقه بواحد منهم ينتفي عنهم، وإن كان يمكن إلحاقه بالجميع أقرع بينهم، فمن خرجت القرعة باسمه كان ولده، وثبت به النَّسب بجميع آثاره التي سبق ذكرها للإبن الشرعي أو لإبن الزنى.
مسألة 797: إذا وَلَدتْ زوجتان لزوج واحد وَلَدين، فاشتبها ولم تَعَرِفْ الأُمُّ ولدها، أقرع بينهما فمن خرج اسمها كان الولد لها، وكان الثاني للثانية، وتحقّق به النسب بجميع لوازمه. وكذا يقرع بينهما لو كان الولدان لزوجين فاشتبها.
مسألة 798: إن ما ذكرناه من ثبوت النسب اعتماداً على مضي المدة لأقل الحمل أو لأقصاه، أو اعتماداً على القرعة مع التعدد وإمكان إلحاقه بالجميع، إنما هو حيث لا تتيسر طريقة أخرى جازمة لرفع الإشكال والإشتباه، فإنْ صحَّ ما يذكره أهل الخبرة بشأن وجود فحوصات طبية دقيقة يمكن الجزم من خلالها ببنوة طفلٍ لوالدٍ بعينه، لزم العمل بها وترتيب الأثر على نتائجها وتركُ الوسيلتين الظنيتين الآنفتي الذكر، فلو ألحق الولد به اعتماداً على إحداهما ثم تبين له بالفحص الطبي الجازم أنه ليس ولدَه لزمه العمل بمقتضى علمه المتأتي من الفحص الطبي، وهكذا.
مسألة 799: إذا اختلف الزوجان في تحقّق الدخول الموجب لإلحاق الولد ـ أو ما بحكمه ـ وعدمه، فادَّعته المرأة ليُلحق الولد به وأنكره الزوج، كان القول قول الزوج بيمينه؛ وكذا لو اختلفا في ولادته، فنفاها الزوج وادَّعى أنها أتت به من خارج؛ أما إذا اختلفا في المدة ـ مع الإتفاق في أصل الدخول أو ما بحكمه والولادة ـ فإن ادّعى الزوج ولادته لدون ستة أشهر، وادّعت هي خلافه، كان القول ـ أيضاً ـ قول الزوج مع يمينه، وإن ادّعى ولادته لأزيد من أقصى الحمل، وأنكرت هي، كان القول قولها مع يمينها، ويلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
الفرع الثاني: ما به يثبت النسب
ونريد به بحث مدى إمكان التعويل على الإقرار والشهادة، من حيث إنهما إخبار بتحقّق النسب بالإلحاق بالنحو المذكور آنفاً، والنظر في مدى كفايتهما في ثبوت النسب في حق الغير، فهنا أمران:
الأول: الإقرار
مسألة 800: إذا أقر شخص ممن له أهليـة الإقـرار ـ بالنحو الذي بيَّناه في أحكام الإقرار ـ بأن هذا الشخص ولدُه أو أخوه أو جدُّه أو عمه أو غير ذلك من مراتب القرابة له، نفذ إقـراره ـ مع احتمـال صدقـه ـ في جميع الأمور التي يلحقه منها تبعة فيها غرم وخسارة، كوجوب الإنفاق على من أقر ببنوته أو أبوته، وكحرمة الزواج منه، وكإشراكه في نصيب من المال الذي كان سيرثه وحدَه لو لم يُقرَّ بقرابته منه، ونحو ذلك؛ وأما ثبوت النَّسب بهذا الإقرار: فإن كان ببنوة ولدٍ صغير له، وكان أمرُه بيده، واحتُمل صدقه في إقراره عادةً وشرعاً، ولم يكن ثمة مدَّعٍ آخر لبنوته، ثبت به النسب بينهما، وترتبت عليه جميع لوازم النسب من الميراث والولاية والحضانة والإنفاق وغيرها، دون أن يُعتدَّ بإنكار الصغير لذلك بعد بلوغه، إلا أن يأتي بدليل جازم على العدم. وكذا يثبت به النسب بين أولادهما وبين سائر طبقات القرابة، مع جميع لوازمه أيضاً، وإن كان ينبغي لهم مراعاة الاحتياط في ذلك بما يناسب كل أثر من آثار النسب، فيدع التزوج ممن يحرم عليه التزوج منه على تقدير ثبوت النسب، ويتراضون على الميراث، ويتواصلون فيما بينهم كما يتواصل الأرحام، ونحو ذلك، وبخاصة مع إنكار الطرف الآخر لذلك النسب.
وأما إن كان المُقرُّ به هو بُنوةَ الولد الكبير أو أبوته أو أخوته أو غير ذلك، فلا يثبت به النسب إلا مع تصديق الآخر له وإقراره به، وحينئذ تثبت آثار النسب من الولاية والإنفاق والتوارث وغير ذلك؛ نعم في ثبوت التوارث بينهما مع وجود الوارث الآخر لأحدهما أو لكليهما إذا لم يكن مقراً لهما إشكال، وكذا يشكل ثبوت التوارث بينهما وبين غيرهما من سائر الأقارب مع عدم إقراره بالنسب، فلا بد من مراعاة الاحتياط في الموردين بالنحو الذي ذكرناه آنفاً في مورد الاحتياط في الولد الصغير.
مسألة 801: في كل مورد لا يثبت فيه النسب أو آثاره لغير المتوافقين على مضمون الإقرار من سائر الأقارب المشتركين في الميراث فإنه لا يُلزم المنكر بتحمل شيءٍ من نصيب المُقَرِّ به، ولذلك موارد نستعرضها ـ مع بعض الفروع المناسبة ـ على النحو التالي:
الأول: إذا أقر الوارث بقرابة من هو أولى منه دفع ما في يده إليه. وإن أقر بقرابة من يساويه في طبقة القرابة دفع إليه بنسبة نصيبه من الأصل. ولو أقر بمن هو أولى منه، كأن أقر عمُّ الميت بوجود أخ للميت، ثم أقـر ـ مـرة ثانية ـ بوجود ولد لذلك الميت، فإنْ صدَّقه أخو الميت بوجود ولد له دفع الميراث إلى الولد، وإنْ كذَّبه، لزم العمَّ دفعُ الميراث إلى الأخ، ولزمه ـ أيضـاً ـ دفعُ عِوَضه للولد. ولو أقرَّ للميت بولدين دفعة واحدة، فأنكر كل منما أخوة الآخر له، لزم المقرَّ دفع المال إليهما، وعليهما أن يتداعيا للفصل بينهما.
الثاني: إذا أقر إبن الميت بوجود ولد آخر له، ثم أقر بوجود ولد ثالث، فأنكر الثالثُ الثانيَ، فإن لم يكن نسبُ الأخيرين معلوماً من طريق آخر، كان للمقر ثلث المال، لاعترافه بوجود أخوين له لهما الثلثان الباقيان، وكان للثالث نصف التركة، لعدم اعترافه إلا بأخ واحد له هو المُقِرُّ، أي الولد الأول، فيبقى من التركة سدس، أي ما نقص من نصيب الأول لولا إقراره بأخوة الثاني، فيدفع لهذا الثاني بسبب إقرار الأول به. هذا إذا كان نسب الأخيرين مجهولاً، وأما إن كان نسب الأخيرين معلوماً لم يؤثر إنكار الثالث للثاني، فيوزع المال بينهم أثلاثاً.
ويثبت نفس الحكم في صورة ما لو كان للميت ولدان فأقر أحدهما بثالث وأنكره الآخر، فإنه يتم توزيع التركة بالصورة السابقة، دون أن يثبت نسبُ المقَرِّ به، فيقع الغرم على من أقرَّ به فيدفع إليه السدُسَ، دون من أنكره.
الثالث: إذا كان ورثة الميت إخوته وزوجته، فأقرت الزوجة بولد له، فإن صدقها الإخوة كان ثُمن التركة للزوجة والباقي للولد، وإن كذبها الإخوة أخذوا نصيبهم وهو ثلاثة أرباع التركة، أما الربـع الآخـر فإنه يكـون ـ بمقتضى إقرارها ـ بينها وبين الولد الذي أقرت به، فتأخذ هي الثمن وما فضل من الربع فهو للولد.
مسألة 802: إذا مات صبي مجهول النسب، فأقر إنسان ببنوته، قيل: ثبت بذلك نسبه، ويكون ميراثه للمقر إذا كان للصبي مال، ولكنه محل إشكال.
الثاني: ثبوته بالشهادة
مسألة 803: يثبت النسب بشهادة عدلين، وتترتب عليه لوازمه من التوارث وغيره، ولا ينفع معها إنكار بعض الأطراف ما لم يأت ببيِّنة مضادة أو بدليل جازم؛ فيما لا يثبت بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل ويمين. ولا يضر بالبينة التي يثبت بها النسب ما لو كان الشاهدان من أقرباء المشهود بقرابته، فلو شهد أخوا الميت بولد له ثبت به النسب، وصار أولى منهما بميراثه إن كانا عدلين، فيما لا يثبت به النسب إن كانا فاسقين، وإنْ أُخذ بإقرارهما ولزمهما دفع الميراث إليه.
الفرع الثالث: في نفي الولد
مسألة 804: إذا نُسب الولد إلى أبيه لم يكن له أن ينفيه عنه دائماً، بل يختلف ذلك باختلاف الحالات التالية:
الأولى: إذا ثبت تولده منه جزماً، اعتماداً على ما يُدَّعى في زماننا هذا للفحص الطبي، لم يكن له نفي الولد، سواء ولده من زوجته الدائمة أو المتمتع بها.
الثانية: إذا وُلد على فراشه من زوجته الدائمة، وتم ما سبق ذكره من شروط إلحاقه به، وهما: إراقة مَنيِّه على فرجها أو فيه، ومضيُّ المدة المعتبرة لإمكان تولده منه، وعلمنا بتمامية شروط الإلحاق، أو أقَرَّ هو بتمامها، لم يكن له نفي الولد ولو باللعان، حتى لو كان قد واقعها غيره زناً أو شبهة، وحتى مع إمكان إلحاقه بغيره. وكذلك الأمر في المتمتع بها.
الثالثة: إذا سبق منه الإقرار ببنوته لم يقبل منه النفي ولو باللعان، سواء كان الولد من زوجته الدائمة أو المتمتع بها. وإن كان الأجدر بالمكلف مراعاة ما يقتضيه الاحتياط الوجوبي في فروع هذه المسألة في الزواج والطلاق والميراث وغيرها.
الرابعة: إذا لم يكن الأب زوجاً للأم أو كانت الأم في العدة البائنة منه، وكان قد واقعها ـ إضافة إليه ـ زناً أو شبهة أشخاص آخرون، وأمكن إلحاقه بالجميع، وألحق به بالقرعة، فليس للوالد نفي الولد بعد وقوع القرعة عليه، كما أنه ليس لغيره ممن وقعت عليه القرعة نفيه.
الخامسة: أن يكون الولد من زوجته الدائمة التي ما تزال في فراشه، ولم نعلم باجتماع شروط إلحاقه به، ولا هو أقر باجتماع الشروط أو ببنوة ذلك الولد، جاز له نفيه باللعان ـ بل قد يجب عليه ـ عند اتهامها بالزنى، بحيث كان نفي الولد بلحاظ تولده من الزنى، إذا عَلِم بعدم تكونه من مائه لعلمه بإختلال شروط الإلحاق به؛ فإذا نفى بنوته فكذبته زوجته وأكدت أبوته له، لَاعَنَها أمام الحاكم الشرعي بكيفية خاصة يأتي ذكرها في باب الطلاق، فإذا تلاعنا إنتفى الولد عنه وحرمت عليه مؤبداً.
وفي صورة ما لو كانت الحالة نفسها، لكنَّ الزوجة كانت متمتعاً بها، لم يجز له نفيه إلا مع علمه بعدم تكونه منه، فإذا علم بعدم تكوُّنِه منه، فنفاه عنه، فالمشهور أنه ينتفي بغير لعان، دون أن تحرم عليه أم الولد، لكنَّ ذلك مشكل فلا بد من الأخذ بالاحتياط.
تتمة في أحكام الحمل والولادة:
مسألة 805: لا يعتبر استيـلادُ المـرأة وإنجابُهـا الوَلَـد ـ مع الإمكـان ـ حقاً واجباً على المرأة تجاه زوجها بمقتضى عقد الزواج، بل إن الإنجـاب ـ في الجملة ـ واجب على المرأة كشرط ضمني ملحوظ عند تعاقد الزوجين، بحيث لو لم يشترطه الزوج صريحاً قبل التعاقد أو أثناءه كفى في لزومه ذلك التباني الضمني عليه، إلا أن تصرح المرأة باشتراط عدم الإنجاب، ويقبله الزوج؛ نعم، لا يقتضي ذلك الشرطُ الضمنيُّ لزوم استمرار الزوجة في الإنجاب على ما يوافق رغبة الزوج، بل إن لها الحق في أن تحدد المرات التي تنجب فيها بما يوافق رغبتها لا رغبة زوجها، إلا أن يشترط أحدهما على الآخر عدداً معيناً ويقبله الآخر، فيُلزمُ به حينئذ. هذا إذا كان الزوج راغباً في الإنجاب، أما إذا كان غير راغب فيه فليس لها إلزامه إن كانت هي الراغبة، كما أنه لا يحق له منعها من الحمل إن رغبت فيه، ولا يحق له أن يلزمها باستخدام موانع الحمل.
مسألة 806: لا يجوز للرجـل ـ ولا للمرأة ـ أن يفعل في نفسه ما يستلزم التعطيل الدائم للقدرة على الإنجاب ولو بعد ما أنجب ولداً أو أكثر، فضلاً عما لو فعله ابتداءً قبل أن يولد له. وعليه فإنه لا يجوز لأحد الزوجين أو لكليهما ـ ولو مع التراضي ـ أن يجري ما يصطلح عليه طبياً بــ (قطع الأنابيب أو ربطها) أو (استئصال الرحم أو المبيض) أو غير ذلك مما له علاقة بالتناسل، إذا أدى فقده إلى فقد القدرة على الإنجاب، نعم لا مانع منه عند الاضطرار وبالنحو الذي يتوافق مع الضرورة.
أما ما عدا ذلك من وسائل منع الحمل التي لا تستلزم إجهاض الجنين بعد إنعقاد نطفته واستقرارِه في الرحم، فإنه يجوز استخدامها في ذاتها من أجل تحديد نسل الأفراد، بل أو الأمة إذا اقتضت الضرورة العامة ذلك مما يُرجع في تفصيله إلى نظر الحاكم الشرعي وأهل الخبرة؛ شرط أن لا يكون فيها ضرر يجب تجنبه، وأن لا يستلزم استخدامها كشف الرجل عورته على الطبيب الرجل أو المرأة، ولا كشف المرأة عورتها على الطبيب الرجل دون المرأة، إلا مع الضرورة المبيحة لإرتكاب المحرم.
مسألة 807: إذا كان أحد الزوجين عقيماً، ولم يكن ذلك العقم مما ينبغي علاجه لدواعٍ صحية أخرى، بغض النظر عن مانعيته من الإنجاب، لم يجز للرجل ارتكاب ما يحرم عليه فعله من أجل التداوي للإنجاب، كالاستمناء بغير يد الزوجة، وكشف العورة على من يجب عليه سترها عنه، وغير ذلك، وكذا لا يجوز للمرأة كشف عورتها على الطبيب الرجل من أجل هذه الغاية، وإن جاز كشفها على المرأة الطبيبة؛ نعم يجوز للمرأة ـ عند الإنحصار ـ كشف العورة على الطبيب الرجل، إذا كان في ترك العلاج الذي يرجى معه الإنجاب تهديد لمستقبل حياتها الزوجية بالطلاق ونحوه، ويكون في ذلك حرج شديد عليها، فيجوز لها ـ حينئذ ـ بمقدار الضرورة، وكذا يجوز للرجل علاج العقم وارتكاب ما يحرم بسببه بالنحو المذكور إذا كان في تركه حرج عليه، كما هو الغالب.
مسألة 808: إذا انعقدت نطفة الجنين واستقرت في الرحم لم يجز إسقاطه من الرحم، سواءً انعقدت نطفته من نكاح أو من سفاح، وسواءً عُلم أنَّه خَلْقٌ سوي أو مشوه أو لم يُعلم، وسواءً كان قد ولجته الروح أو لم تلجه، وسواءً في ذلك ما لو كان الذي أسقطه أمَّه أو غَيْرَها، وبطلب من أحد والديه أو كليهما أو من دونه، لكافر كان الجنين أو لمسلم، وفي بلد تسمح قوانينه بالإجهاض أو لا تسمح، ما عدا موردين:
الأول: أن يكون في بقاء الجنين هلاك الأم أو ضرر شديد يشبه الهلاك، كالشلـل أو الجنـون أو العمـى أو نحوهـا مـن الأمـراض الخطيـرة، فيجـوز لها ـ حينئذ ـ إسقاطه وحفظ نفسها، بل يجب عليها ذلك. ومن ذلك ما لو خافت المرأة على نفسها القتل بسبب بعض العادات المستحكمة في مجتمعها، وتوقف دفع القتل على إسقاطه؛ وذلك من دون فرق بين ما لو كان قد ولجته الروح أو لم تلجه.
الثاني: أن يكون في بقاء الجنين حرج شديد على المرأة بسبب العار الذي سوف يلحقها، ويكون على درجة من الشدة أنه يربك حياتها ويهدد استقرارها بنحو بالغ، لكن لا يجوز إسقاطه في هذه الحالة إلا قبل ولوج الروح فيه، فإن ولجته الروح حرم إسقاطه رغم ذلك ما دامت لا تخشى القتل.
أما لو أصاب الرجلَ حرجٌ بسبب حمل ذلك الجنين، كما لو كان من زوجة مُتمتَّع بها، ويحرجه إنكشاف أمره أمام أهله أو زوجته، فإن مثل هذا الحرج لا يبرر إسقاط الجنين، ولو كان ما يزال علقة.
مسألة 809: في كل مورد جاز فيه للمكلف إسقاط الجنين فإنه يجوز للطبيب ارتكابه ما دام واثقاً بكون المكلف معذوراً فيه، لكنَّ ذلك لا يعفيه من دفع الدية، إلا أن يشترط على طالب الإجهاض تحملها عنه، كما سنعرض له لاحقاً.
مسألة 810: إذا تسبب شخص بإسقاط الجنين، إما بالمباشرة، بأن فعلت الأم بنفسها أو فعل غيرها بها ما يوجب إسقاط الجنين، بمثل ضربها على بطنها أو دفعها بقوة لتقع ويسقط جنينها أو بوضع دواء في فمها أو بإدخال آلة فيها أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للإجهاض، وإما بالقيام بما ينتج عنه الإجهاض مما يعد كالمباشرة، وذلك كأن يحفر لها حفرة لتسقط فيها، أو يزين لها شرب دواء موجب للإجهاض دون أن تعلم بأثره ذلك، أو نحو ذلك مما يكون السبب فيه أقوى من المباشر، إذا تسبب شخص بالإجهاض بهذا النحو وجب عليه دفع دية الجنين التي سنبينها، سواءً كان عن عمد والتفات أو بدون تعمد ولا التفات، كالذي يحدث في حالة النوم أو الخطأ، وسواءً كان من أحد الأبوين أو من أجنبي، وسواء في ذلك الطبيب الذي يطلب منه الأبوان ذلك أو غيره، وسواءً في ذلك ما لو كانت الأم معذورة في إسقاطه أو غير معذورة؛ نعم إذا كانت الأم معذورة فاشترط عليها الطبيب تحمل الدية عنه سقطت عنه.
مسألة 811: إذا كان الحمل (نطفة) فأسقط، فديته عشرون ديناراً ذهبياً، وإن كان (علقة) فديته أربعون ديناراً، وإن كان (مضغة) فديته ستون ديناراً، وإن كان قد نشأ عظم فثمانون ديناراً، وإن كسي لحماً فمئة دينار، وإن ولجته الروح فديته ألف دينار إن كان ذكراً، وخمسمئة دينار إن كان أُنثى.
أما الفترة التي يكون فيها نطفة فهي أربعون يوماً منذ انعقاده، ثم يكون علقة أربعين يوماً، ثم يكون مضغة أربعين يوماً.
أما مقدار الدينار الشرعي فهو ما يساوي نصف ليرة عثمانية ذهباً رشادياً، فَينظُر قيمتَها حين دفع الدية بعملة بلده إن رغب في دفعها منها ويدفعها.
مسألة 812: تدفع الدية لورثة الجنين، وهم أبواه، بالدرجة الأولى مع حياتهما وإمكان توريثهما، فإن كان الجاني في إسقاطه هو أحدهما، وكان غير معذور ولا مخطئاً، انفرد الآخر بجميع الدية، وإن كانت أمه هي الجانية، وكان أبوه ميتاً، ورثه سائر أقربائه على حسب طبقات الميراث.
وفي جميع الحالات فإنه يجوز لمن له الدية أن يسامح الجاني بها، فتسقط عنه حينئذ، فإن كان غير معذور كان عاصياً لله تعالى، وتلزمه التوبة والاستغفار عسى أن يغفر الله له ويتوب عليه.
مسألة 813: يستحب للمسلم طلب الولد والإكثار منه، وبخاصة مع قدرته على كفالته وتربيته تربية حسنة، وقد ذكرت الأحاديث الشريفة عدة آداب للحمل والولادة نستعرض بعضها كما يلي:
الأول: أن يصلي كل من الوالدين ـ في ليلة زفافهما ـ ركعتين قبل المواقعة، وأن يكونا حين المواقعة على طهر من الحدث الأكبر والأصغر، وأن يدعو الزوج ـ في جملة ما يدعو ـ: «... فإن قضيت لي في رحمها شيئاً فاجعله مسلماً سوياً، ولا تجعله شرك الشيطان»، ويستحب أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ولداً تقياً ذكراً. كما يستحب أن يكون على وضوء كلما أراد جماع زوجته أثناء حملها. وأن يسمي حين الشروع في المجامعة، للحامل وغيرها.
هذا إضافة إلى ما يكون قد سبق ذلك من اختيار الزوجة التي تجمع الخصال الحميدة في نفسها وفي نسبها، واختيار الزوج الصالح.
الثاني: أن تحرص على الالتزام بالعديد من الآداب المأثورة في طعامها وشرابها مما هو مذكور في مظانه من كتب الحديث.
الثالث: ينبغي مساعدة المرأة عند ولادتها، بل يجب ذلك وجوباً كفائياً عند الخوف عليها أو على ولدها من التلف أو ما بحكمه، ويجوز للمرأة القابلة أن تولدها، كما يجوز لغيرها من النساء أن يساعدنها في ذلك، ويجوز لهن في مثل هذه الحالة النظر إلى عورة المرأة بالمقدار الذي يحتاج إليه؛ ولا يتوقف جواز النظر على عدم وجود الزوج القادر على توليدها. نعم إذا لزم أن يولدها الرجل عند الضرورة، لم يجز اللجوء إلى غير الزوج مع إمكان توليد الزوج لها، كما أنه لا يجوز أن يتولى ذلك الرجل الأجنبي مع وجود شخص من محارمها، وفي جميع الحالات فإنه لا يحل من اللمس والنظر المحرمين إلا مقدار ما تتأدى به الضرورة.
الرابع: يستحب غسل المولود عند وضعه إذا أُمِنَ عليه الضرر. والأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى، فإنه عصمة من الشيطان الرجيم كما ورد في الخبر. ويستحب ـ أيضاً ـ تحنيكه بماء الفرات وتربة الإمام الحسين y. وتسميته بالأسماء الحسنة، فإن ذلك من حق الولد على الوالد، وفي الحديث الشريف: (إن أصدق الأسماء ما يتضمن العبودية لله جل شأنه، وأفضلها أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم)، وعن النبي w أنه قال: (من ولد له أربعة أولاد لم يُسمِّ أحدَهم بإسمي فقد جفاني).
الخامس: تستحب الوليمة عند الولادة، ولو بعدها بأيام قلائل. وأن يحلق له تمام شعر رأسه في اليوم السابع ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة. وأن يختنه في اليوم السابع، وإن كان لا بأس بتأخيره عنه، ويولم عند ختانه، وإن كان يجوز أن يولم مرة واحدة بقصد ولادته وختانه إذا ختنه في اليوم السابع أو قبله، وتتأدى به السنَّتان. ويجب على الوالد ختان ولده الذكر قبل بلوغه، فإن بلغ غير مختون وجب عليه المبادرة إلى ختان نفسه، والختان واجب في نفسه، وشرط في صحة الطواف واجباً كان أم مندوباً، ولحج كان أو لعمرة، والأحوط وجوباً اعتباره في الصبي المميز إذا أحرم بنفسه دون ما لو أحرم به وليه، ودون ما لو كان غير مميز؛ وإذا ولد الصبي مختوناً سقط الختان، وإن استحب إمرار الموسى على المحل لإصابة السنة.
السادس: تستحب العقيقة عن المولود في اليوم السابع لولادته، ذكراً كان أو أنثى، فإن تأخر عن اليوم السابع لعذر أو لغير عذر لم يسقط عنه، بل لو لم يُعَقَّ عنه حتى بلغ استُحِب له أن يعق عن نفسه، وإذا لم يَعُقَّ عن نفسه في حياته فلا بأس أن يُعق عنه بعد وفاته؛ نعم تجزي الأُضحيَّة عن العقيقة، فمن ضَحَّى وجوباً أو استحباباً، أو ضُحِّي عنه، أجزأته عن العقيقة.
ولا بد أن تكون من الأنعام الثلاثة، الغنم والبقر والإبل، من أي أصنافها كانت، كما لا بد من بذل عين الحيوان وذبحه وتوزيعه بالكيفية التي ستأتي، فلا يجزي عنها بذل ثمنها والتصدق به؛ ويستحب أن تكون سمينة خالية من العيوب فتية، وأن يَعُق ذكراً عن الذكر وأنثى عن الأنثى، وأن تذبح وتقطع دون كسر عظم منها، ويتخير بين توزيعها لحماً أو مطبوخاً، فإن طبخها دعى إليها من المؤمنين عشرة فما زاد، ولو لم يكونوا فقراء، فيأكلون منها ويدعون للولد؛ ويكره أن يأكل منها الأب أو من يعوله، ولا سيما الأم.
مسألة 814: لا يجب على الأم إرضاع ولدها ـ لا مجانـاً ولا بأجـرة ـ إذا لم يتوقف حفظه على إرضاعها، كما لا يجب عليها إرضاعه مجاناً وإن توقف حفظه عليه، بل لها المطالبة بأجرة إرضاعه في الحولين بخاصة دون الزائد عليهما، فتدفع لها أجرتها من مال الولد إن كان له مال، وإلا فمن مال والده مع يساره وقدرته، أو من مال جده لأبيه مع عدم يساره أو كونه متوفى، ومع عدمه تعين على الأم إرضاعه مجاناً، إما بنفسها أو باستئجار مرضعة له من مالها بناء على وجوب إنفاقها عليه على الأحوط وجوباً، كما سيأتي في محله.
لكن، رغم ذلك، فإن الأم أحق بإرضاع ولدها إذا أرادته ورغبت فيه، فليس للأب تعيين غيرها إلا إذا طالبت بأجرة وكانت غيرها تقبل الإرضاع بأجرة أقل أو بدون أجرة، فإن للأب حينئذ أن يسترضع غيرها، وفي هذه الصورة إذا لم تقبل الأم بإرضاع الغير ولدها فأرضعته هي بنفسها لم تستحق بإزائه شيئاً من الأجرة.
مسألة 815: ينبغي أن يُرضع الولد بلبن أمه، ففي الحديث الشريف: (ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه)، نعم إذا كان هناك مرجح لغيرها، كشرافتها وطيب لبنها، فلا بأس باختيارها دون الأم. وحيث يراد أن ترضعه غير الأم فإنه ينبغي اختيار المسلمة العاقلة ذات الصفات الحميدة خَلقاً وخُلقاً، ففي الخبر عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (أنظروا من يُرضعُ أولادكم فإن الولد يشب عليه). هذا ولا ينبغي استرضاع الكافرة والحمقاء والزانية من اللبن الحاصل من الزنا، بل ولا المرأة المتولدة من الزنا.
مسألة 816: لا ينبغي إرضاع الولد أقل من واحد وعشرين شهراً، كما لا ينبغي إرضاعه فوق العامين، ولو تراضى الأبوان على فطامه قبل واحدٍ وعشرين شهراً لم يكن به بأس.
مسألة 817: الأم أحق بحضانة الولد ـ إن شاءت ـ إذا كانت مسلمة عاقلة مأمونة على الولد، وذلك بتفصيل سوف يأتي بيانه لاحقاً في مبحث خاص. (أنظر المسألة: 826 وما بعدها).
المطلب الثالث: في الرضاع
ونريد به بيان أحكام الرضاع من حيث كونه سبباً في نشوء قرابة بنحو خاص بين عدد من الأفراد، وبيان أثر هذه القرابة مقارنة مع قرابة المصاهرة والنسب، وذلك على قاعدة كون الرضاع أثراً من آثار العلاقة الزوجية إجمالاً؛ وقد استحسنا ذكره هنا بدلاً عن ذكره في فصل صفات الزوجين، لأننا لم نهدف هناك ـ منهجياً ـ إلى أكثر من تعداد الأشخاص الذين لا يجوز التزوج منهم من الأقرباء، أما ما هي القرابة وما هي أصنافها وبماذا يمتاز كل صنف عن الآخر، وما هي حقوق أفراد كل صنف بعضهم على البعض الآخر، فإنه بحث آخر له علاقة بآثار العلاقة الزوجية، لا بصفات الزوجين، فاقتضى ذلك تأخير أحكام الرضاع إلى هذا الفصل. وفيما يلي نستعرض أحكام الرضاع في مسائل:
مسألة 818: (الرضاع) هو: (قيام المرأة بإرضاع طفلٍ حليبَها)، ولا تتحقّق به القرابة إلا إذا وقع موافقاً لما يعتبر فيه من الشروط شرعاً، فتقع به القرابة وتترتب عليها آثارها الخاصة بها في دائرة معينة، على ما سنبيِّنه.
مسألة 819: لا يترتب على قرابة الرضاع سوى (المَحْرَمية) في الزواج ولواحقها، دون غيرها من آثار القرابة النَّسَبية، غير أن دائرة هذه المحرمية أضيق في الرضاع منها في النسب، كما يتبين من المقارنة بين مسائلهما التي ذكرناها في فصل صفات الزوجين. ومرادنا بــ (محرمية الزواج ولواحقها) هو: حرمة التزوج من أفراد معينين من الأقارب الرضاعيين، مع ما يترتب على ذلك من جواز النظر إلى ما عدا العورة منهم وكذا جواز لمسه. أما سائر الآثار، وهي التوارث والولاية والحضانة والإنفاق وبر الوالدين وصلة الرحم وغير ذلك، فإنه من آثار قرابة النسب، لا قرابة الرضاع.
مسألة 820: يشترط في الرضاع الموجب لنشر الحرمة أمور:
الأول: أن يكون حصول اللبن للمرضعة بعد الولادة لا قبلها، وأن يكون حملها الذي وضعته من نكاح شرعي، ومنه وطىء الشبهة؛ فلو حملت المرأة من نكاح غير شرعي فولدت فدر لبنها فأرضعت به طفلاً، لم تنتشر به الحرمة ـ على الأحوط وجوباً ـ ولو اجتمعت سائر الشروط، وكذا لو كانت حاملاً فدر حليبها أثناء ذلك، ولو قبل أن تضع حملها بقليل، فإنه لا ينشر الحرمة، فضلاً عما لو در من دون حمل. هذا، ولا فرق في الولادة بين الولادة التي تضع فيها ولداً تاماً وبين تلك التي تضع فيها سقطاً، إن صدق عليه اسم الولد عرفاً. كما أنه لا ضرورة لدر الحليب بعد الولادة مباشرة، فلو مضت مدة قصيرة بدون لبن عند الأم ثم تجدد، بحيث انتسب اللبن المتجدد إلى ولادتها تلك، نشر الحرمة، بخلاف ما لو مضت مدة طويلة على انقطاع لبنها بعد دره، أو على جفافه تماماً، بنحو لم يصدق استناد ذلك الحليب المتجدد إلى تلك الولادة، فإنه لا ينشر الحرمة حينئذ.
كذلك فإنه لا يضر بنشر الحرمة من ولادتها تلك ما لو طلقها زوجها أو توفي عنها، فتزوجت من غيره، ودخل بها الثاني وحملت منه أو لم تحمل، فإنها لوأرضعت بحليبها من ولادتها لزوجها الأول الذي ما يزال متدفقاً لم ينقطع، ولداً، نشر ذلك الرضاع الحرمة بين هذه الأم وهذا الولد وزوجها الأول.
الثاني: أن تكون المرضعة امرأة واحدة في تمام المقدار أو المدة التي تنتشر فيها الحرمة، فلو كان لرجل واحد زوجتان مرضعتان، فارتضع طفل من إحداهما سبع رضعات ومن الأخرى ثمان رضعات مثلاً، فرغم أنه قد تم له خمس عشرة رضعة من لبن رجل واحد، فإنه لا ينشر الحرمة لكونه من لبن امرأتين، لا امرأة واحدة.
الثالث: أن يكون اللبن منتسباً بتمامه إلى رجل واحد، فلو طلق الرجل زوجته بعد ولادتها منه فتزوجت غيره وحملت وولدت منه، فإذا أرضعت ولداً آخر من لبن زوجها الأول مدة من الزمن، ثم أرضعته بعد ولادتها من زوجها الثاني مدة أخرى، بحيث صدق على المدتين عنوان إنبات اللحم واشتداد العظم، لم ينشر هذا الرضاع الحرمة، لأنه من لبن رجلين.
وقد يصدق على ما لو ظلّت ترضع بلبن زوجها الأول بعد طلاقها منه ومنه وولادتها، بحيث أرضعت ولداً من لبن زوجها السابق سبع رضعات، ثم أرضعته بلبن زوجها الثاني ثمان رضعات، لم ينشر الحرمة أيضاً.
الرابع: أن يكون الارتضاع قبل تجاوز الولد العامين من عمره، فلو رضع أو أكمل الرضاع بعد استكماله السنتين لم ينشر الحرمة، أما المرضعة فلا يضر في نشر الحرمة بإرضاعها مضي أكثر من حولين على ولادتها التي حصل منها اللبن.
والمراد بالحولين مضي أربعة وعشرين شهراً هلالياً من حين ولادته، فإن ولد أثناء الشهر أُحتسِبَ من الشهر الخامس والعشرين مقدارُ ما مضى من شهر ولادته وأُكمل به العامان.
الخامس: بلوغ الرضاع في مدته أو في مقداره حد إنبات اللحم وشد العظم، وهو الذي يتحقّق في حده الأدنى من حيث المدة: برضاع يوم كامل على مدار الليل والنهار، ومن حيث العدد: بخمس عشرة رضعة متوالية. لكنه لا يُكتفى في نشر الحرمة بأحد هذين الأمرين من مرتبة (الحد الأدنى) إلا بشرط أن لا يتخلل رضاعه منها رضاعٌ من امرأة أخرى ولا تغذٍ بغير اللبن من طعام أو شراب، فيما يتحقّق في غير ذلك بمداومة ارتضاعه منها مدة غير قصيرة، شهراً أو أقـل أو أزيـد، وتنتشـر بـه الحرمـة ولو فصل بين رَضاعتـه منها ـ بيـن آونة وأخرى ـ رضاعَتُه من امرأة أخرى أو تَغَذِّيه بشيءٍ من الطعام والشراب، ما دام نبات اللحم واشتداد العظم مستنداً إلى رضاعه من لبن تلك المرأة. والمعيار في نبات اللحم واشتداد العظم هو المقدار المعتد به منهما عند العرف، لا ما يكون بحسب المقاييس العلمية الدقيقة. كذلك فإن المعيار في (الرضعة الواحدة) عند تقديره بالعدد، هو ما لو كان جائعاً فارتضع حتى ارتوى وشبع وترك الثدي من نفسه.
مسألة 821: لا يشترط في نشر الحرمة بالرضاع حصوله بامتصاص الطفل له من الثدي، فلو ألقي اللبن في فم الطفل أو شربه بقنينة أو من الكوب انتشرت به الحرمة.
كذلك فإنه لا يشترط فيه كون الأم واعية حين الإرتضاع منها، فلا يضر بنشر الحرمة ما لو كانت الأم نائمة أو مغمى عليها أو مجنونة حين الإرتضاع، بل ولا يضر فيه ما لو كانت ميتة فأكمل العدد برضعة منها بعد موتها، فإنه ينشر الحرمة ـ أيضاً ـ كما لو كانت حية.
مسألة 822: إن ما ذكرناه لنشر الحرمة في الشرطين الثاني والثالث من لزوم وحدة صاحب اللبن والمرضعة معاً إنما هو بلحاظ أن ثمة رضيعاً واحداً، ولم يرتضع رضاعاً كاملاً من لبن كلٍ من الفحلين ولا المرأتين، إذ إنه بفقد أحد هذين الشرطين لا تحدث بنوة رضاعية البتة بين الرضيع وبين كل من الفحلين والمرضعتين. أما لو تعدد الرضيع، وكان كل منهما قد ارتضع رضاعاً كاملاً من لبن فحلين أو امرأتين فلا يعتبر في تحقّق الأخوة بينه وبين من ارتضع معه إلا وحدة صاحب اللبن، لا المرضعة، وصورة هذه المسألة نذكرها كما يلي:
إذا ارتضع طفل من هذه المرأة رضاعاً كاملاً من ولادتها من زوجها الأول، ثم طلقها فتزوجت من غيره وحملت وولدت منه، فأرضعت بلبنها من زوجها الثاني طفلة رضاعاً كاملاً، لم تنتشر الحرمة بين ذلك الطفل وتلك الطفلة لعدم وحدة صاحب اللبن، فلا يكونان أخوين ليحرم أحدهما على الآخر من هذه الجهة، رغم وحدة المرضعة؛ وأما إذا اتحد صاحب اللبن فأرضعت زوجته طفلاً، فطلقها ثم تزوج من غيرها، فأرضعت زوجته الثانية هذه طفلةً، كان هذان الطفلان أخوين وحكم بحرمة كل واحد منهما على الآخر، بل وبحرمة أولاد كل منهما عليه؛ ومثله ما لو كان له زوجتان معاً فأرضعتا ولدين.
فالمناط ـ إذا ـ في تحقّق الأخوة الرضاعية هو وحدة الرجل المنتسب إليه اللبن الذي ارتضعا منه، سواءً اتحدت المرضعة أو تعددت، وهو أمر آخر مختلف تمام الاختلاف عن مفروض المسألة التي ورد ضمنها الشرطان الثاني والثالث.
مسألة 823: إذا تحقّق الرضاع الجامع للشروط صار صاحب اللبن أباً والمرضعة أماً للرضيع، وصار أباؤهما وأمهاتهما أجداداً وجدات له، وأولادهما إخوة وأخوات له، وأولاد أولادهما أولاد إخوة وأخوات له، وإخوتهما وأخواتهما أعماماً وعمات له، أو أخوالاً وخالات له، وكذا أعمامهما وأخوالهما وعماتهما وخالاتهما، وصار الرضيع إبناً أو بنتاً لهما وأولاده أحفاداً لهما.
هذا، وإننا قد ذكرنا في بعض مسائل المطلب الثاني من الفصل الأول تفصيلاً لمن يحرم بالرضاع من الذكور والإناث عند حديثنا فيه عمن يحرم التزوج منه بالقرابة. (أنظر المسألة: 585 وما بعدها).
مسألة 824: يثبت الرضاع المُحرِّم بأمرين:
الأول: العلم أو الاطمئنان بحدوثه، ولو بسبب إخبار شخص أو أكثر.
الثاني: شهادة العدلين بوقوعه شهادة تفصيلية يُذكر فيها سبب التحريم، من كونه بالمدة أو بالعدد أو بالإنبات، فلا تكفي الشهادة الإجمالية، كأن يشهد بوقوع الرضاع المحرم، أو يشهد بأن فلاناً هو إبن فلان من الرضاع.
هذا، وفي ثبوته بشهادة رجل وامرأتين، أو شهادة أربع نساء إشكال.
مسألة 825: الأَوْلى منع النساء من الاسترسال في إرضاع الأطفال حذراً من نسيانهن وحصول الزواج بين المحارم دون التفات.
المطلب الرابع: في حقوق الأقرباء
تمهيد:
لقد أولت الشريعة الإسلامية المطهرة القرابة النَّسَبية عناية مميزة، فجعلتها ركيزة التضامن العائلي، ثم التضامن الإجتماعي بعامة، فجسدت هذا التضامن بين الأقرباء في عدة حقوق واجبة، وجعلتها مواكبة لهم في شتى مراحل حياتهم، فالولاية ـ ومعها الحضانة ـ حق واجب للولد على والديه يواكبه حتى بلوغه، وبر الوالدين ـ ومنه طاعتهما ـ حق واجب للوالدين على الولد يواكبه مدى العمر، وإنفاق الآباء والأبناء بعضهم على بعض حق واجب على القادر ما دام الآخر عاجزاً، وأما صلة الرحم فحق واجب لكل من يراه العرف رحماً قريبة، فيمتد أثرها في التواصل والتعارف والتعاون إلى مدى أبعد من دائرة الأسرة التي يظلها سقف واحد، فيصل إلى أفراد كثيرين وأماكن متباعدة. ثم إن ذلك التضامن وما يتجلى به من حقوق لا يقف عند حدود الحياة، بل هو يتعداها لما بعد الموت ليكون الأقربُ من الأرحام هو الأولى بالمال الذي تعب ذلك المُتَوفَّى في تحصيله، فيتوِّجُ تشريعُ الميراثِ قِمَّةَ هذه الحقوق. ورغم ما لقرابة المصاهرة والرضاع من أهمية في تحقيق المزيد من التعارف والتواصل فليس لها تلكم الحقوق، وهو ما سبق ذكره مفصلاً في مبحث (القرابة) من هذا الفصل.
لكنَّ ثمة حقاً مُميَّزاً لا يختص وجوبُه بالأقرباء النسبيين، وهو وجوب الإنفاق على كل إنسان فقد القدرة على تحصيل القوت إلى درجة صار معها في معرض الهلاك، بل إن الإنفاق واجب على الدابة الضالة التي يخشى عليها من الموت جوعاً كما سبق ذكره في مبحث اللقطة (أنظر فقرة «الثاني» من المسألة: 339)، إضافة إلى مسؤولية المكلف عن الحيوان المملوك له ولزوم تقديم ما يلزمه من طعام وشراب ومأوى، إجمالاً، كما سيأتي بيانه.
إن هذه الموضوعات هي ما سوف نستعرضه في ثلاثة فروع على النحو التالي:
الفرع الأول: في حقي الولاية والحضانة
وفيه مسائل:
مسألة 826: الولاية: (حق، يقتضي أولوية الأب أو الجد للأب أو من يقوم مقامهما، برعاية القاصر لصباً أو جنون أو سفه في العديد من أموره، حتى يبلغ درجة الأهلية)، وهي التي ذكرنا تفاصيلها في مباحث المدخل من الجزء الثاني من هذا الكتاب (فقه الشريعة)، والتي يظهر لمن يراجعها عناية الشريعة بكفالة القاصر وتعيين من يرعاه ويتولى تدبير شؤونه في صحته النفسية والجسدية وفي شتى أموره الدينية والدنيوية، وذلك حتى يبلغ عاقلاً رشيداً، وإلا استمرت ولايتهما عليه ما دام غير كامل العقل بالخلو من الجنون والسفه. وهذه الولاية الشاملة حق واجب للولد على أبيه أو جده لأبيه، لمكان تولده منهما وعيشه بينهما ولزوم قيامهما بمقتضيات حفظه التي لا تقف عند حدود طعامه ولباسه وسكنه، بل تشمل لزوم العناية به بشتى احتياجاته.
أما «الحَضانة» فهي في المصطلح الفقهي: (حق، يقتضي أولوية شخص بعينه، بأن يتواجد الولد عنده ويكون معه وفي «حضنه»، ليدبره في أموره العادية، من طعامه ولباسه ونومه ودفع الأذى عنه، ونحو ذلك من الأمور التي ترجع إلى «شخصه» بخاصة)، وهي نفسها بعض الأمور التي يتولاها الولي بحكم إشرافه على «جميـع» شـؤون الولـد، والتـي تتميـز بكونهـا ـ غالبـاً ـ في مرحلة الطفولة الأولى التي يحتاج الولد فيها إلى «حضن» يسكن فيه ويطمئن له. إن حق الحضانة هذا قد أعطته الشريعة للأم بكيفية خاصة، ربما لأنها أليق وأجدر بكفالة الولد ورعايته في فترة خاصة، هي مدة رضاعه وفترة صباه الأولى، في حين يبقى الولد في الدائرة العامة لولاية الولي خلال مدة الحضانة بتمامها، وبنحو لا يتعارض مع حق الأم في حضانته؛ كما أن الشريعة ميزت حق الحضانة عن حق الولاية، إذ إنه في بعض الموارد التي ستأتي تعطى الأم حق الحضانة لفترة أطول بسبب اختلال بعض الشروط المعتبرة في الحاضن رغم كونه ولياً، كما سيأتي. إن جميع ما يتعلق بالولاية قد بحثناه سابقاً في الجزء الثاني من فقه الشريعة في ص: 24، وما بعدها، فيما لا بد من تفصيل الأحكام المتعلقة بالحضانة ـ كحقٍ للولد على أبويه ـ في المسائل التالية، بما في ذلك ما يمكن أن يتقاطع منها مع حق الولاية.
مسألة 827: حيث يعيش الوالد والوالدة معاً في مسكن واحد فلا غرو أن الولد سيكون معهما وفي رعايتهما دون إشكال فيه، وأما حيث يفترقان بطلاق أو فسخ، مع اجتماع شروط الحضانة الآتية فيهما فإن الولد الذي لم يبلغ السنة السابعة هلالية يبقى مع والدته وفي حضانتها حتى يتم السنة السابعة من عمره على الأقرب، تسكنه حيث تسكن، وترعاه في أموره العادية التي ذكرناها في المسألة السابقة، دون أن ينازعها الوالد ـ ولا غيره ـ فيه من هذه الجهة، ذكراً كان الولد أو أنثى، ما لم تتزوج. فإنْ انقضت هذه المدة، أو تزوجت الأم خلالها، صارت الحضانة للوالد، وحينئذ يجوز له فصل الولد عن أمه أو إبقاؤه معها.
هذا إذا افترق الوالدان بطلاق أو فسخ خلال فترة السنوات السبع من عمر الولد، أي: خلال فترة الحضانة التي هي حق الأم، أما إذا حدث الفراق بموت الزوج خلال هذه الفترة ـ أو بعدها وبعد انتقال الحضانـة إلى الوالد ـ فإن الأم حينئذ أحق بحضانة الولد إلى أن يبلغ رشيداً، من وصي أبيه ومن جده أو جدته لأبيه أو غيرهما من أقاربه، سواءً تزوجت الأم بعد ذلك أو بقيت دون زواج؛ كذلك فإن الوالد أحق بالولد من سائر أقارب الأم ـ فضلاً عن وصيها ـ إذا ماتت الأم خلال فترة أحقيتها بالحضانة؛ وأما إذا ماتت الأم بعد موت الأب وبعد استقلالها بحضانة الولد فالحضانة لجد الولد لأبيه، فإن فقد فالحضانة لوصي الأب أو الجد للأب، فإن وجد الوصيان وتراضيا على أحدهما كان خيراً، وإن تنازعا أقرع بينهما؛ فإن فقد الوصيان، كانت الحضانة لسائر أقرباء الولد يترتبون في الأولوية حسب مراتبهم في الميراث، ومع التعدد والتساوي في المرتبة والتنازع على حضانته يقرع بينهم.
مسألة 828: يعتبر في من تكون له الحضانة من الأبوين وغيرهما توفر أمور:
الأول: العقل، فلا حضانة للمجنون خلال فترة جنونه.
الثاني: أن يكون مأموناً على القيام بشؤون الحضانة بالنحو الذي يحقق السلامة للولد في نفسه وفي جسده وفي دينه.
الثالث: أن يكون الحاضن مسلماً إذا كان الولد مسلماً، فإن كان أحد الأبوين مسلماً دون الآخر ألحق الولد بالمسلـم، وكانت الحضانـة لـه ـ مطلقـاً ـ دون الكافر، وكذا حكم الولد المحكوم بإسلامه في صورة ما لو كانت الحضانة لأحد أقربائه بعد فقد الأبوين.
الرابع: أن تكون الأم خلال مدة استقلالها بالحضانة ـ بعد طلاقها وحياة زوجها ـ غير متزوجة، فإن تزوجت سقط حقها في حضانته.
فإذا فقدت الأم شيئاً من هذه الصفات خلال فترة ثبوت حق الحضانة لها سقط حقها فيها، وانتقلت الحضانة إلى من بعدها حسب أولويته؛ وكذا لو فقدها الأب أو الجد للأب، فإن حقهما بالحضانة يسقط وينتقل إلى الأولى بها بعدهما، وذلك من دون أن تسقط ولايتهما على الولد فيما هما وليان عليه إن بقيت أهليتهما للولاية، ومثال ذلك ما لو سقطت حضانة الجد للأب لعدم كونه مأموناً على الولد بسبب كبر سنه وعجزه عن القيام بشؤونه، فإنه مع بقاء أهليته للولاية بالعقل والإسلام يبقى ولياً عليه رغم عدم حضانته له.
مسألة 829: لا يعتبر لثبوت الحضانة للأم كونها هي التي ترضعه، فلو لم تكن قادرة على إرضاعه، أو كانت قادرة فطلبت أجرة مع تبرع غيرها به، فاسترضع الوالد غيرها، بقي حقها في الحضانة كما لو كانت هي التي ترضعه، وذلك لعدم المنافاة بين ارتضاعه من امرأة وبين حضانة امرأة أخرى له إذا أمكن حمله إلى المرضعة أو احضار المرضعة عنده، فإن لم يمكن ذلك ـ لتباعد الأماكن أو حيلولة الموانع ـ قُدِّم ما يقتضيه الإرتضاع بمقدار الضرورة، وبقي حقُّ الأم في الحضانة قائماً، وكان لها العمل به بعد زوال المانع.
مسألة 830: إذا فقد الحاضن شيئاً من شروط الأهلية المعتبرة فيه، وسقط حقه في الحضانة، ثم وَجَدَ ما فَقَدَ وتَمَّتْ فيه الشروطُ، عادَ حقُّه فيها، وذلك كالأم المطلقة إذا تزوجت ثم فارقت زوجها الثاني وعادت خليَّة خلال السنين السبعة من عمر الولد؛ أو: كالأب يعرض عليه الجنون ثم يعقل بعد ذلك، أو يرتد ثم يتوب، أو نحو ذلك من الموانع الموجبة لسقوط حق الحضانة.
مسألة 831: لا يجب على من له حق الحضانة مباشرة الحضانة بنفسه، بل يجوز له إيكالها إلى غيره مع وثوقه بقيامه بها على الوجه المطلوب.
مسألة 832: الحضانة كما هي حق للوالدين أو غيرهما بالنحو الذي ذكرناه، فإنها حق للولد عليهم، فإذا امتنعوا عنها أجبروا عليها؛ غير أنه يحق لغير الولي ممن له حق الحضانة، كالأم وأبيها وأمها ونحوهم من أقارب الولد ـ ما عدا وليه، وهو أبوه وجده لأبيه ـ أن يأخذ أجرة على الحضانة من مال الولد إن كان له مال ولم يكن ثمة متبرع بها، فإن لم يكن له مال بَذَلَ الأجرة وليُّه من ماله، فإن لم يكن له ولي وجب على الأم ونحوها ممن تجب نفقته عليه حَضانَتُه مجاناً أو بذل الأجرة لمن يحضنه إن كان الحاضن غيرها؛ فإن وُجد متبرع سقط حق الحضانة عن طالب الأجرة، بل وكذا يسقط مع طلبه أجرة أزيد من غيره.
مسألة 833: حق الحضانة من الحقوق التي تقبل الإسقاط، فيسوغ لمن له الحق أن يتنازل عنه لغيره ممن يليه في سلسلة مراتب الأولوية من أقارب الطفل إذا كان جامعاً للشروط، دون الأجنبي، بعوضٍ كان تنازله عنه أو بدون عوض، فإذا قبل الآخرُ ثبت الحق له دون المتنازِل عنه، ولم يكن له الرجوع عنه، وإذا رجع عنه لم يرجع إليه؛ فإن كان الذي تنازل له غير جامع للشروط، أو كان ثمة من هو أولى منه، لم يصح التنازل ولم يسقط عنه الحق.
مسألة 834: حق الحضانة يقتضي سكن الولد مع من له حق حضانته، فلو كانت الحضانة للأم ساغ لها أن تسكنه حيث تسكن، وليس لوليه أن يلزمها بالسكن في موضع معين، ولو فرض عدم وجود مسكن للأم الحاضنة بعد طلاقها أو ترملها فليس لها أن تطالب الولي بتأمين مسكن لها لتحضن فيه ولدها، سواءً من ماله أو من مال الولد، ويكفي في مسكن الأم أن يكون لائقاً بها ولو بتبرع الغير به أو بسكنها مع زوجها إذا تزوجت بعد ترملها، أو نحو ذلك، فإن فقدت المسكن، أو وجدته ولكن لم يكن لائقاً ولا مناسباً لطفلها، بحيث لم تعد مأمونة على الولد، سقط حقها في حضانته حتى تجد المسكن المناسب.
هذا، وكما لا يسوغ للولي أن يتدخل في سكن الطفل ولا في غيره من شؤون حضانته في إطار ما هو عمل الحاضن ووظيفته التي ذكرناها، وذلك في كل مورد يكون الحاضن فيه غير الولي، فإنه لا يسوغ ـ أيضاً ـ أن يقوم الحاضن بشيء من أعمال الولي، من قبيل حفظ أمواله واستثمارها، وشؤون تأديبه وتوجيهه، ونحو ذلك مما هو من صلاحيات الولي؛ وعلى كل حال، فإنه ينبغي أن يتفاهم الولي مع من له حق الحضانة ـ وهو الأم غالبـاً ـ على كيفية القيام بشؤون الولد، وأن ينسقا العمل بينهما في الإتجاه الذي يحفظ حق كل منهما ويحقق مصلحة الولد.
مسألة 835: لا يقتضي حق الحضانة كون نفقة الولد خلال مدة حضانته على الحاضن إذا لم يكن هو الذي تجب نفقته عليه، فقد يكون الحاضن هو المنفق وقد يكون غيره، وتفصيل ذلك سيأتي في مبحث آخر. (أنظر المسألة: 838).
مسألة 836: إذا حُرم من له حق الحضانة من حضانة الولد في تمام المدة أو بعضها ـ ولو عدواناً ـ لم يكن على من حَرمَه تدارُك ما فات من حقه بقيمة أو نحوها.
مسألة 837: تنتهي الحضانة ببلوغ الولد رشيداً، فإذا بلغ رشيداً لم يكن لأحد حق الحضانة عليه، حتى الأبوين فضلاً عن غيرهما، بل يملك أمر نفسه ويتخير في الانضمام إلى من شاء منهما أو من غيرهما، سواءً في ذلك الذكر أو الأنثى؛ نعم إذا كان انفصاله عنهما موجباً لعيشه في حالةٍ مخالفةٍ لمقتضيات السعادة والعيش الطبيعي، بحيث تستدعي إشفاق الوالدين على ولدهما منها، فأمراه بالعيش معهما إشفاقاً عليه، وجب عليه طاعتهما في ذلك براً بهما ودفعاً لتأذيهما.
الفرع الثاني: في نفقة الأقارب
وفيه مسائل:
مسألة 838: يجب على الولد الذكر الإنفاق على والديه، ويجب على الوالد الإنفاق على أولاده الذكور والإناث، وهذا المقدار من حق الإنفاق على الأقارب لا إشكال في ثبوته بالشروط التي ستأتي، غير أن الأقرب ثبوت النفقة لغير هؤلاء من الأقارب ممن نذكرهم على النحو التالي:
أولاً: كما يجب على الولد الذكر الإنفـاق على أبويـه فإنـه ـ أيضـاً ـ يجب على الولد الأنثى أن تنفق على أبويها.
ثانياً: كما يجب على الولـد المباشـر ـ ذكـراً كـان أو أنثى ـ الإنفاق على الأبوين فإنه ـ أيضاً ـ يجب على الأحفاد والأسباط ذكوراً وإناثاً أن ينفقوا على الأجداد والجدات مهما علوا، من جانب الأب كانوا أو من جانب الأم، وذلك عند فقد الولد المباشر أو إعساره وعجزه عن الإنفاق.
ثالثاً: كما يجب على الوالد الإنفاق على أولاده الذكور والإناث فإنه يجب ـ أيضاً ـ على الجد للأب وإن علا أن ينفق على أحفاده وأسباطه ذكوراً وإناثاً مع فقد الوالد المباشر أو عجزه عن الإنفاق، فإن فُقد الأجداد للأب أو أعسروا وجب على الأم، ثم وجب على أبيها ثم على أمها، ثم على أبي أبيها، ثم على أم أبيها، وهكذا يُلحظ الأقرب منهم فالأقرب، بما في ذلك ما لو اجتمعت الأصول مع الفروع، فلو اجتمع واحد من الأصول كجده لأمه مع واحد من الفروع كابن إبنه، كان حفيدُه أقربَ من جده وأولى بالإنفاق عليه.
هذا، ولا يثبت حق الإنفاق بالقرابة لغير الآباء والأبناء من الأقرباء، كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ولا لغيرهم من أبنائهم وبناتهم، وإن كان الإنفاق عليهم من خالص المال أمراً حسناً لما فيه من الوَصْلِ لهم والبرِّ بهم.
مسألة 839: إذا تعدد من يثبت عليه حق الإنفاق، كأن يكون للشخص المستحق للنفقة والد وولد، أو عدة أولاد، وجب على كل واحد منهم القيام بنفقته، فإن تصدى أحدهم وحقق له تمام كفايته سقط الوجوب عن الآخرين ما دام مكفياً، وإن حقق بعض كفايته، وجب على الجميع إكمال ما نقص عنه، بمن فيهم ذلك المتصدي.
مسألة 840: يشترط في وجوب الإنفاق على القريب فقره، بمعنى عدم وجدانه لما يحتاج إليه في معيشته فعلاً من طعام وكسوة وفراش وغطاء ومسكن ونحو ذلك، فلا يجب الإنفاق على الواجد لنفقته فعلاً وإن كان فقيراً شرعاً، أي: لا يملك مؤنة سنته؛ وأما غير الواجد لها فإن كان متمكناً من تحصيلها بالاستعطاء أو السؤال لم يمنع ذلك من وجوب الإنفاق عليه بلا إشكال، نعم لو استعطى فأُعطي مقدار نفقته الفعلية لم يجب على قريبه الإنفاق عليه، وهكذا الحال لو كان متمكناً من تحصيلها بالأخذ من حقوق الفقراء من الأخماس والزكوات والصدقات وغيرها، أو كان متمكناً من الاقتراض ولكن بحرج ومشقة أو مع احتمال عدم التمكن من وفائه فيما بعد احتمالاً معتدّاً به، فإن ذلك ـ أيضاً ـ لا يمنع من وجوب الإنفاق عليه إلا أن يجد ما ينفقه بإحدى هاتين الوسيلتين، وأما مع عدم المشقة في الاقتراض وتوفُّر فُرص الإيفاء فالظاهر عدم وجوب الإنفاق عليه.
ولو كان متمكناً من تحصيل نفقته بالإكتساب، فإن كان ذلك بالقدرة على تعلّم صنعة أو حرفة يفي مدخولها بنفقته ولكنه ترك التعلّم فبقي بلا نفقة، وجب على قريبه الإنفاق عليه ما لم يتعلّم، وهكذا الحال لو أمكنه الإكتساب بما يشق عليه تحمّله، كحمل الأثقال، أو بما لا يناسب شأنه، كبعض الأشغال التي لا تناسب بعض الأشخاص، ولم يكتسب لذلك، فإنه يجب على قريبه الإنفاق عليه.
وإن كان قادراً على الإكتساب بما يناسب حاله وشأنه، كالقوي القادر على حمل الأثقال، والوضيع اللائق بشأنه بعض الأشغال، ومن كان كسوباً وله بعض الأشغال والصنائع، وقد ترك ذلك طلباً للراحة، فالظاهر عدم وجوب الإنفاق عليه، نعم إذا مرت عليه أيام قد فاته فيها الإكتساب لو رَغِبَهُ، بحيث صار محتاجاً فيها فعلاً، وجب الإنفاق عليه فيها بخصوصها؛ كما يجب الإنفاق عليه في صورة ما لو ترك التكسب لاشتغاله بأمر يتنافى مع التكسب، كالمرابطة أو طلب العلم أو نحو ذلك.
مسألة 841: لا فرق فيما ذكرنا من عدم وجوب الإنفاق على القادر على التكسب بين الرجل والمرأة، فلو كانت المرأة قادرة على تحصيل نفقتها بالتكسب اللائق بها لم يجب على والدها أو ولدها الإنفاق عليها؛ نعم، لا يعد من القدرة على النفقة ما لو كانت قادرة على الزواج ممن يكفيها نفقتها، فلو لم تتزوج مَنْ هذه حالُها مع توفر الزواج اللائق بها لم تسقط نفقتها بامتناعها، ووجب على أقاربها الإنفاق عليها.
مسألة 842: لا يعتبر في المُنْفَق عليه من الأقرباء أن يكون مسلماً، ولا عادلاً، ولا ممن به علة كالعمى والشلل المُقعِد ونحوهما، نعم يعتبر في من عدا الأبوين أن لا يكون كافراً حربياً، والكافر الحربي هو: من يكون في حالة حرب مع المسلمين بالنحو المذكور في باب الجهاد.
مسألة 843: يعتبر في المُنْفِق توفر القدرة على الإنفاق على قريبه، وذلك بعد قيامه بنفقة نفسه وزوجته الدائمة بالنحو المناسب لاحتياجاته واللائق بشأنه، بما في ذلك ما يلزمه بذله في زواج نفسه ولو مع عدم اضطراره إليه، أو في إكرام ضيوفه وقضاء حوائج قاصديه، ونحو ذلك مما يعد من نفقته، ثم يَنْظُر ما يفضل عنه فيجب عليه إنفاقه في العاجز من أقربائه بقدر ما يسع منهم، فإن وسع جميع من تجب نفقته عليه منهم كان خيراً، وإن وسع بعضَهم قُدِّم الأقربُ فالأقرب، كالولد ـ مثلاً ـ فإنه مقدم على ولد الولد، فإن تساووا في درجة القرابة وزع الموجود عليهم بالسوية إن كان مما يقبل التوزيع ويبقى صالحاً للانتفاع، وإلا تخير في دفعه لمن يشاء منهم.
هذا، ولا يشترط في ثبوت النفقة كمال المُنْفِق بالبلوغ والعقل، فلو كان للصبي أو المجنون مال زائد عن نفقة نفسه وزوجته وجب على الولي بذله لمن تجب نفقته على ذلك الصبي أو المجنون.
مسألة 844: إذا لم يكن عنده ما ينفقه على قريبه، وكان متمكناً من تحصيله بالاكتساب اللائق بشأنه، وجب عليه ذلك، وإلا أخذ من الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة وغيرهما لفقره، وإلا استدان مع القدرة، وذلك على نحو ما تقدم تفصيله في مبحث نفقة الزوجة. (أنظر المسألة: 738).
مسألة 845: يقتصر في النفة الواجبة على الأقارب على نفقة القريب نفسه، فلا تشمل نفقة من يعوله من أفراد أسرته، كزوجته وأولاده، إلا أن يجب على المنفق من جهة أخرى، فيجب ـ مثلاً ـ على الوالد أن ينفق على ولده دون زوجته، في حين يجب عليه ـ أيضاً ـ الإنفاق على أولاد ولده هذا، وذلك بناءً على ما تقدم من وجوب الإنفاق عليهم من حيث أنهم أحفاده، وبنحو مستقل عن إنفاقه على أبيهم أو عدم إنفاقه؛ كذلك فإن على الولد أن ينفق على والده دون أولاده، لأنهم إخوته، وهكذا.
مسألة 846: لا تقدير لنفقة القريب الواجب بذلها له، فيكفي بذل ما يقيم حياته من طعام وكسوة ومسكن وغيرها بالنحو المناسب لحاله وشأنه، كخادمه ودابة ركوبه ونفقات علاجه وسفره ونحو ذلك مما مر ذكره في نفقة الزوجة في المسألة (731)؛ نعم، لا يعد من النفقة الواجبة أداء ديونه، ولا دفع ما ثبت عليه من فدية أو كفارة أو دية جناية أو نحو ذلك، بل ولا بذل مصاريف زواجه من مهر وغيره، وإن كان ذلك هو الأحوط استحباباً، ولا سيما في الأب مع حاجته إلى الزواج وعدم قدرته على نفقاته.
مسألة 847: لا يجب في نفقة الأقارب تمليك القريب ما يحتاج إليه من أعيان تذهب بالاستعمال، كالطعام والشراب، ولا الأعيان التي لا تذهب بالاستعمال كالمسكن والأثاث واللباس، بل يكفي توفيرها عنده وبذلها له على نحو الانتفاع، كما أنه يكفي في مثل الطعام بذله في دار المنفِق إلا مع وجود عذر يمنع المُنفَق عليه من تناوله في دار المنفِق، كبعد المسافة، أو وجود من يتأذى منه، أو نحو ذلك، فيجب ـ حينئذ ـ حمله إليه.
مسألة 848: تسقط نفقة القريب المستحقة له الآن إذا أسقطها عن المنفق، وتبرأ ذمته منها ولا يحق للمنفق عليه المطالبة بها بعد ذلك، فيما لا تسقط نفقته المستقبلية لو أسقطها، فتبقى ذمة المنفق مشغولة بها، وللمنفَق عليه أن يطلبها منه بعد الإبراء.
مسألة 849: إذا عجز المنفق عن الإنفاق لم يجب عليه تدارك ما فات منه، وكذا لو امتنع عنه مع قدرته عليه، وإن أثم بذلك، وذلك بخلاف ما مر في نفقة الزوجة في المسألة (740)؛ غير أنَّ لمن له الحق إجبارَه عند امتناعه، ولو باللجوء إلى الحاكم وإن كان جائراً؛ فإن لم يمكن إجباره جاز له أن يأخذ من ماله بمقدار نفقته مقاصَّةً، ولكن بعد استئذان الحاكم الشرعي على الأحوط وجوباً، فإن لم يمكنه ذلك جاز له أن يستدين على ذمته بإذن الحاكم الشرعي، فتشتغل ذمته بما استدانه ويَلزَمُ الممتنعَ قضاؤه، فإن تعذر الحاكم الشرعي كفاه استئذان بعض عدول المؤمنين بالاستدانة على ذمته.
تتمة في الإنفاق على المضطر:
مسألة 850: إذا اضطر شخص إلى أكل طعام غيره لإنقاذ نفسه من الهلاك أو ما يشبهه كالعمى والشلل ونحوهما، فإن كان المالك حاضراً، ولم يكن مضطراً إليه لإنقاذ نفسه، وجب عليه بذله له وتمكينه منه، لكن يسوغ له طلب العوض دون أن يشترط عليه ما يعجز عنه، وإلا عد ممتنعاً؛ وأما إذا كان المالك غائباً حين اضطراره إليه، ولم يمكنه الإتصال به أو بوكيله لاستئذانه، جاز للمضطر ـ بل وجب عليه ـ أن يرفع اضطراره بالأكل من طعامه بعد تقدير ثمنه وجعله في ذمته، على أن لا يكون أقل من ثمن المثل.
هذا، ولا فرق في الحكم المتقدم بين ما لو كان المضطر مسلماً أو غير مسلم، فيشمل كل ذي نفس محترمة.
مسألة 851: إذا اضطر شخص لغير الطعام من أموال الغير، كالدواء أو السلاح أو الثياب أو نحو ذلك مما يتوقف عليه حفظ نفسه أو عرضه، وجب على المالك ـ مع حضوره ـ بذله لـه بعوض أو بدونـه، وجـاز للمضطـر ـ مع غياب المالك ـ التصرف في مال الغير بمقدار الضرورة مع ضمان العوض.
الفرع الثالث: في حقوق الأقرباء الأخلاقية
ونريد بالحقوق الأخلاقية بعض ما حث الإسلام على مراعاته في عشرة الأقارب بعضهم لبعض، ذلك أن الإنسان قد يعزف عن معاشرة أهل بيته بالمعروف إتكالاً منه على رفع الكلفة بينه وبينهم، أو تشوفاً منه لتسامحهم معه وغض نظرهم عن هفواته، مما يطمعه في الاسترسال معهم وترك مراعاة الأدب واللياقة في تصرفه معهم، الأمر الذي قد يدخله في ارتكاب بعض كبائر الذنوب فيهم، كقطيعة الرحم وعقوق الوالدين وظلم الأقارب في أموالهم ونحو ذلك؛ في حين إن المؤمن الخلوق ينبغي أن يتبدَّى حسن خلقه مع أهل بيته قبل غيرهم، وذلك لما أثر في الحديث عن النبي (ص) أنه قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). هذا وليس للأقرباء حقوق خاصة سوى ثلاثة حقوق، هي: تأديب الولد، وبر الوالدين، وصلة الرحم، فيما هم في سائر الحقوق الثابتة للمسلم على أخيه المسلم سواء. لذا فإننا سوف نقتصر في هذا المبحث على ما هو خاص بالأقرباء من الحقوق الأخلاقية مما سنذكره في ثلاثة عناوين على النحو التالي:
أ ـ في تربية الولد:
مسألة 852: يجب على ولي الطفل القيام بما يكفل للطفل في مراحل عمره المختلفة سلامة الجسد والنفس والدين، وهي الأركان الثلاثة للشخصية الصالحة. ويجب على الولـي ـ من أجـل ذلك ـ تحصيل المعرفة التي تكفل له النجاح في ذلك، أو تفويض من يقوم بهذه المهمة عنه، وذلك بالحدود الموافقة لما هو لازم في الشريعة المطهرة، والتي عمادها حفظه أولاً: من الأذى في جسده بحمايته من الأمراض وبتقديم الغذاء الصحيح له؛ وحفظه ثانياً: من الأذى في نفسه بحمايته من الإرهاب والقهر والحرمان ونحوها من الأمور الموجبة لتشوه النفس وانحرافها عن الخط السوي وعجزها عن النهوض بصاحبها لمواجهة أعباء ومصاعب الحياة؛ وحفظه ثالثاً: من الإنحراف في دينه، وذلك بالحرص على تعليمه العقائد الحقة والمعارف الدينية الأساسية بالمقدار الذي يجعله مأنوس الذهن بها، فيقدر ـ بعد بلوغه ـ على تحصيل الاعتقاد الشخصي بها عن بصيرة ويقين.
مسألة 853: يجب على الولي أن يراعي في هندام ولده ومظهره الخارجي وما يرجع إلى حرمته بين الناس ما يجنبه هتك الحرمة والتشنيع عليه وتعييره بالنحو الذي يوجب له الأذى البالغ في نفسه وفي مستقبل حياته، وذلك كشؤون نظافته وألفاظه وسلوكه ولباسه ونحوها من أموره العادية.
مسألة 854: يجب على الولي أن يعلم ولده القراءة والكتابة بالمقدار الذي يُمَكِّنُه من تحصيل المعارف الواجبة مما ينحصر تعلمه بالقراءة والكتابة، أو الذي يمكنه من تحصيل ما هو واجب كفائي من المعارف والاختصاصات العلمية والمهنية، إضافة إلى وجوب تعليمه ما هو ضروري له في سلامة جسده ونفسه ودينه بالنحو الذي ذكرناه في المسألة السابقة، مما قد يتوقف تَعَلُّمُهُ على تعلُّم القراءة والكتابة. وإن كان ينبغي للولي أن يحرص على أن يكتسب ولده الأعلى من درجات العلم، بعد ما صار العلم أساساً في نجاح الإنسان في شتى ميادين الحياة.
مسألة 855: ينبغي أن يسلك الولي في أسلوب تربيته لولده ـ أو غيره ممن يتولاه ـ طريقة الرحمة واللين والتوجيه الهادىء الحسن، وأن يبتعد جهده عن العنف والشدة في القول والممارسة، بل إنه يحرم عليه استخدام العنف المؤدي إلى إيذاء الطفل نفسياً أو جسدياً بالضرب وغيره من أساليب القمع والإرهاب؛ وحيث لا بد من تأديبه بالضرب فإنه يجوز لوليه ضربه ثلاث أو أربع ضربات يراعي في شدتها أن لا توجب احمرار الجلد، أما غير الولي من الأقارب والمربين ـ ومنهم الأم ـ فإنه لا يجوز لهم ضربه بهذا النحو إلا بإذن الولي.
ب ـ في بر الوالدين وطاعتهما:
مسألة 856: ينبغي للولد أن يعاشر والديه بالمعروف والإحسان، فيحرص في علاقته بهما على أن يكون في أعلى درجات الأخلاق واللياقة، فيبذل لهما من نفسه كل خير مهما كان نفيساً أو مرهقاً له، منسجماً فيه مع قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }  [الإسراء: 24]، ويجنبهما من نفسه كل شر مهما كان تافهاً وضئيلاً، منسجماً مع قوله تعالى:{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [الإسراء: 23]. وكفى للأبوين فخراً، وللولد أجراً وثواباً، أن الله تعالى جعل النظر إلى وجههما حباً بهما نوعاً من أنواع العبادة، على ما ورد في بعض الأخبار.
مسألة 857: ينبغي للولد أن يحرص على طاعة والديه وتنفيذ رغبتهما، مهما كان متقدماً في العمر ووجيهاً عند الناس، ومهما كانت رغبتهما صعبة وشاقة عليه ما دام ذلك ممكناً له وضمن الحدود الشرعية التي أمر الله تعالى بمراعاتها؛ بل يجب عليه طاعة والديه في كل أمر نابع من شفقتهما عليه مما يصطلح عليه بــ (الأوامر الإشفاقية)، كما لو نهياه عن السكن في موضع مخوف، أو عن سفر فيه مخاطرة، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب مخالفتها تَأَذِّيهما النابع من إشفاقهما ولهفتهما عليه؛ وفي الحديث أن النبي (ص) أوصى رجلاً فقال له: (... ووالديك فأطعهما، وبُرَّهما حيين أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان).
مسألة 858: لا فرق فيما ذكرنا من لزوم البر بالوالدين والطاعة لهما بين ما لو كانا مسلمين أو كافرين، ولا بين ما لو كان المسلم منهما تقياً أو فاجراً، فقد ورد في الحديث عن الباقر y أنه قال: (ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبرُّ الوالدين، بَرَّيْن كانا أو فاجريْن).
ت ـ في صلة الرحم:
مسألة 859: يجب على المكلف أن يصل أرحامه من الأقارب ويحرم عليه قطيعتهم؛ والمراد بــ (الأرحام): (كل من يكون من الأقرباء من جهة الأب أو من جهة الأم على درجة من القرابة يراهم فيها العرف ممن تحسن صلته فيُمدح الواصل، وممن تقبح قطيعته فيُذم القاطع، فتشمل فيما نراه من ظاهر العرف ـ إضافة إلى الأرحام النسبيين الذين يحرم التـزوج منهـم من الذكـور والإنـاث ـ أولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، سواءً أولاد المباشرين من الأعمام والعمات والأخوال والخالات أو غير المباشرين، فإن أولادهم هم من الأرحام الذين يراهم العرف واجبي الوصل؛ وهكذا الأمر في غيرهم.
والمراد بــ (الوصل): (كل فعل أو قول يقصد به التودد إلى الرحم)، وذلك بمثل السلام عليه والسؤال عن أحواله، ولو بالمراسلة أو بالهاتف، وبمثل مهاداته وزيارته وعيادته إذا مرض، وتهنأته بأفراحه وتعزيته في أحزانه، ومساعدته إذا احتاج أو افتقر، ونحو ذلك؛ ويكفي منها أقل ما يتحقّق به الوصل ويُخرج به عن القطيعة، وإن كان الأفضل الحرص على الوصل بكل ما يقدر عليه فإن فيه الثواب الجزيل والخير العميم كما سيأتي، وقد ورد في ذلك الحديث عن الإمام الصادق (ع)، أنه قال: (صلْ رحمك ولو بشربة ماء، وأفضل ما توصل به الرحم كف الأذى عنها..)، وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (صلوا أرحامكم ولو بالتسليم،...).
هذا، ولا فرق في الرحم بين المسلم والكافر، ولا في المسلم بين التقي والفاجر، وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أن بعض أصحابه سأله: (تكون لي القرابة على غير أمري، أَلَهُمْ علي حق؟ فقال (ع): نعم، حق الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان: حق الرحم وحق الإسلام). كما أنه لا فرق في وجوب الوصل بين ما لو كان الرحم واصلاً أو قاطعاً، وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) ـ أيضاً ـ أنه قال في جواب من سأله عن صلة من يحرص على وصله فيستمر هو في قطيعته: (إنك إذا وصلته وقطعك وصلكما الله عز وجل جميعاً، وإن قطعته وقطعك قطعكما الله).
مسألة 860: ينبغي للمؤمن أن يشتد في صلة الرحم ويتجاوز بها الحد الواجب، وذلك لما ورد في فضلها وآثارها والحث عليها من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ومن الآيات الكريمة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21]، وقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]؛ وأما ما ورد فيها من الأحاديث فكثير، منها ما جاء في الحديث عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (إن الرحم معلقة يوم القيامة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني)، وعن النبي (ص) أنه قال: (أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنة، فإن ذلك من الدين). وعن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (صلة الأرحام تُحسِّن الخلق، وتُسَمِّح الكف، وتُطَيِّب النفس، وتزيد في الرزق، وتُنْسِىءُ في الأجل «أي تؤخره وتطيل في العمر»). وعنه ـ أيضاً ـ (ع) يرويه عن جده رسول الله (ص) أنه قال: (إن أعجل الخير ثواباً صلة الرحم). إلى غير ذلك من الأحاديث.

ونريد به بيان ما يترتب على الزواج من أثر في نشوء أنواع من صلة القربى القائمة بين الناس، وهي: المصاهرة والنسب والرضاع، وكذا بيان ما له صلة ببعضها، كالحمل والولادة، وهي الأمور التي نفصلها في أربعة مطالب على النحو التالي:
المطلب الأول: في المصاهرة
مسألة 783: (المصاهرة) اسم للصلة الحادثة بالزواج بين أحد الزوجين وبعض أقارب الآخر، والتي تتعدد تسمياتها في اللغة وفي العرف، من قبيل: الصهر والكَنَّة والربيبة والحم والحَماة وغيرها؛ وجميع القرابات الحادثة بالمصاهرة تتحقّق بمجرد العقد، كما أن أثرها في نشر حرمة الزواج بين أحد الزوجين وبين بعض هؤلاء الأقـارب بالنحـو الـذي بينـاه في الفصـل الأول، يتحقّـق ـ أيضاً ـ بمجرد العقد، ما عدا حرمة الربيبة على زوج الأم فإنها لا تتحقّق إلا بالدخول بالأم، وما عدا العقد أثناء مرض الموت ووفاة الرجل المريض قبل الدخول. ومن الراجح ذكر ما تتميز به قرابة المصاهرة بنحوٍ من الإجمال الذي يرجع في تفصيله إلى مواضعه من الأبواب التي سبقت والتي ستأتي، فنقول:
أولاً: تنتشر الحرمة الذاتية بالمصاهرة في دائرة هي أضيق من دائرة انتشارها بالنسب أو الرضاع، فتحرم الزوجة على والد الزوج وإن علا، وعلى ولده وإن نزل، دون غيرهما ممن قِبَلَه من الرجال، ويحرم الزوج على أم الزوجة وإن علت وعلى بنتها وإن نزلت، دون غيرهما ممن قِبَلَها من النساء، وكما يحرم التزوج ممن ذكر فإنهم يصيرون من المحارم الذين تجوز مصافحتهم والنظر إلى بعض ما لا يجوز النظر إليه من غيرهم.
وأما الحرمة العارضة بالمصاهرة، كالجمع بين الأختين أو بين العمة وابنة أخيها والخالة وابنة أختها، فإنها لمَّا كانت مؤقتة ومرهونة بالجمع بينهن مطلقاً، أو بالجمع بينهن بدون إذنهن، لا تصير الأطراف فيها من المحارم، فلا تحل أخت الزوجة نظراً ولمساً، ولا ابنة أخيها أو أختها كذلك، على الزوج، بل يبقى أجنبياً عنهن. وهذا الجانب قد عرضنا له تفصيلياً في مباحث الفصل الأول المتقدمة.
ثانياً: رغم أن بعض الأقارب يصيرون بالمصاهرة من المحارم، فإن وجوب صلة الرحم لا يشملهم، لاختصاصه بالأقارب نسباً لا مصاهرة، نعم ينبغي وصلهم والبر بهم تحت عناوين أخلاقية عامة تساهم في إشاعة الألفة في الأسرة.
ثالثاً: لا توارث بين غير الزوجين من أهل القرابة الناتجة عن المصاهرة، فلا يرث الزوج والد زوجته ولا والدتها ولا ولدها من غيره، كما لا ترث الزوجة والد زوجها أو والدته أو ولده من غيرها، وهكذا سائر الموارد إلا أن ينطبق عليه عنوان آخر من عناوين أسباب الميراث، كعنوان (ضامن الجريرة) الذي يأتي بيانه في باب الميراث، والذي لا خصوصية فيه للقرابة الناتجة عن المصاهرة، بل هو شامل لكل من انطبق عليه العنوان المذكور. (أنظر المسألة: 1086 وما بعدها).
المطلب الثاني: في النسب
الفرع الأول: ما به يتحقّق النسب
ونريد به بيان حقيقة النسب المتقومة بتولد الإنسان من أبويه من نكاح أو سفاح، وبيان الأصل الذي يرتكز عليه إلحاق الولد بأبيه ونسبته إليه، والذي هو مضيُّ المدة التي يمكن تولده منه فيها، وذلك بمجرد مضيِّها أو مقروناً باللجوء إلى القرعة مع إمكان إلحاقه بأكثر من شخص، وهو ما نفصله في مسائل:
مسألة 784: (النسب) هو: (صلة القرابة الناتجة من تولد الإنسان من أبويه)، فتحدث بالولادة بُنوَّة الوليد لوالديه، وأبوة الوالد وأمومة الوالدة لولدهما، فإن وُلد لأبويه غيره تحقّقت بولادته الأخوة، فتكتمل بذلك أصول القرابة النسبية المباشرة، وهي: الأبوة والأمومة والبنوة والأخوة، وذلك إضافة إلى ما يتحقّق بالولادة من أنواع القرابة غير المباشرة، وهي التي تتمثل: في جانب الوالدين: بوالدي الأب ووالدي الأم مهما علوا، وهم الأجداد، وفي جانب الأبناء: بأبناء الإبن والبنت مهما نزلوا، وهم الأحفاد والأسباط، وفي جانب الإخوة: بأبناء الأخ والأخت مهما نزلوا، أو بلحاظ آخرٍ وهو وجود إخوة لآبائه وأمهاته مهما علوا، فيصير إخوة الآباء أعماماً لأولاد إخوتهم، وإخوة الأمهات أخوالاً لأولاد أخواتهم. وقد فصلنا ذكرهم في مباحث الفصل الأول عند الحديث عمن يحرم التزوج منه من المحارم.
مسألة 785:
تتميز القرابة النسبية بعدة آثار، وهي:
أولاً: إن دائرة من يحرم التزوج منه من الأقارب النسبيين أوسع منها في الأقارب من الرضاع أو المصاهرة، وهو أمر قد سبق ذكره. إضافة إلى ما يترتب على ذلك من كونه من المحارم الذين يحل النظر إلى ما يجب عليهم ستره من أجسادهم عن غير المحرم عدا العورة، وكذا لمسها.
ثانياً: وجوب البر بالولدين والأجداد، ووجوب صلة غيرهم من الأقارب ممن يراه العرف واجب الوصل منهم بالنحو الذي سيأتي.
ثالثاً: مسؤولية الوالدين والأجداد عن الأبناء في إطار الولاية عليهم وحضانتهم بالنحو الذي سيأتي بيانه؛ وقد تتوسع الولاية لتشمل غيرهم من الأقارب في باب شؤون تجهيز الميت.
رابعاً: مسؤولية كل من الآباء والأبناء عن الإنفاق على الآخر عند حاجته وعجزه عن تحصيل ما يعتاش به، كما سيأتي بيانه.
خامساً: مسؤولية الأقارب النسبيين بعضهم عن البعض الآخر عن جنايته على الآخرين خطأً، وهم (العاقلة) الواردة في باب الديات.
سادساً: توارث الأقارب فيما بينهم طبقة بعد طبقة على أساس قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنفال: 75].
وذلك بالنحو الذي سيأتي في باب المواريث.
مسألة 786: من المعلوم أنه لا تخفي نسبة الولد إلى أمه بعد وضوح تولده منها إلا في اللقيط الذي لا يعرف له أبوان، فيما قد يعتري الشكُّ نسبة الولد إلى أبيه، نظراً إلى طبيعة التناسل المتقومة بدخول نطفة الرجل إلى رحم المرأة واقترانها ببويضة المرأة، وهي من الأمور التي لا يمكن الجزم بها ـ غالباً ـ إلا اعتماداً على بعض القرائن، وإلا بعد ثبوت دخول نطفة هذا الرجل إلى رحم هذه المرأة بالجماع ونحوه؛ لذا فإنه لا بد لثبوت البنوة أو الأبوة بين الوالد وولده من توفر أمرين:
الأول: ثبوت وقوع مني هذا الرجل بالقذف في فرج هذه المرأة، أو على ظاهره، أو ثبوت دخول آلة الرجل الملوثة بالمني بعد قذفه خارج الفرج، أو ثبوت إدخال امرأة لمني الرجل المقذوف خارجاً إلى فرجها بواسطة آلةٍ أو نحوها، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يُعلم فيها بدخول مني هذا الرجل إلى فرج هذه المرأة. وذلك بغض النظر عن كون دخوله فيها بزواج أو سفاح، وبرضاً أو بدونه، ومع القصد أو بدونه.
الثاني: أن تمضي مدة من الزمن بين دخول المني بالنحو المذكور آنفاً وبين وضع الحمل لا تقل في حدها الأدنى عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة، وهي مدة أقل الحمل وأقصاه. فلو فرض أن رجلاً واقع زوجته، ثم مضى عنها مسافراً، فوضعت ولداً في غيبته بعد مضي السنة لم يكن ذلك الولد منه، وكذا لو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من تاريخ مواقعتها.
مسألة 787: إذا تحقّق هذان الأمران حكم بلحوق الولد بأبيه ونسبته له في حالتي كونه من نكاح شرعي أو من سفاح، وتفصيلهما كما يلي:
الحالة الأولى: يعتبر الولد (إبناً شرعياً) في كل حالة يكون انعقاد النطفة فيها عن نكاح بالعقد الصحيح، أو بالعقد الفاسد بواحد من أسباب الفساد التي ذكرناها ضمن المباحث المتقدمة مع جهل الزوجين بفساده؛ أو يكون عن نكاح بدون عقد لاشتباه الزوجة بغيرها بسبب الغفلة أو النوم أو الجنون أو غياب العقل بسبب من أسبابه، إلا ما يكون بتناول المسكر عمداً واختياراً؛ وكذا يكون الولد شرعياً في كل حالة يتم فيها إدخال نطفة الرجل في رحم المرأة بغير الجماع، أو تلقيحهما معاً خارج الرحم، سواءً كان بنطفة الزوج أو نطفة غيره، وسواءً كان حلالاً نفس الإدخال أو التلقيح أو حراماً.
الحالة الثانية: يعتبر الولد (إبن زنى) إذا تولد عن نكاح بدون عقد ولا شبهة، ومما يُعَدُّ بمنزلة (عدم العقد) ما لو كان نكاحهما عن عقد فاسد مع علمهما بفساده. كما أنه لا يعد من الشبهة ما لو ظن السكران الذي تعمد شرب الخمر أن هذه المـرأة زوجتـه فواقعهـا فحملت منـه، بـل يحكـم ـ حينئذ ـ بكون الولد من زنى، ولو من جهة أبيه فحسب إذا كانت أمه مشتبهة بشبهة يعتد بها. هذا، ولا يعد من الزنى مقاربة الزوج لزوجته التي حرم عليه وطؤها لعارض، كالحيض أو الإحرام أو نحوهما، وإن كان آثماً.
مسألة 788: كما يكون الولد ـ بمقتضى الحالتين المتقدمتين ـ إبناً شرعياً أو إبن زناً لكلا والديه، فإنه قد يكون ابناً شرعياً لأحدهما دون الآخر، فلو فرض أن أحد الوالدين كان مكرهاً على الزنى أو جاهلاً بفساد العقد أو مشتبهاً، دون الآخر، كان الولد إبناً شرعياً للمعذور في ذلك النكاح، وابن زناً لغير المعذور؛ ورغم ذلك فإن عنوان كونه ولداً شرعياً هو الذي يغلب عليه وتلحقه أحكامه المترتبة عليه بخصوصه، وهي الأمور المشروطة بطهارة المولد، كمرجعية الفتيا والقضاء وإمامة الجماعة وغيرها.
مسألة 789: لا يرفع عنوان (إبن الزنى) عن الولد ما لو تزوج الزاني بأمه بعد ما حملت منه.
مسألة 790: إذا زنى رجل بامرأة ثم تزوجها بعد ذلك، فإذا حملت منه بعد العقد عليها ولم يعلم كون الولد من النكاح المحرَّم أو المحلَّل حكم بأنه من المحلل واعتبر ولداً شرعياً.
مسألة 791: لا يمتد أثر الزنى في الأبناء والأحفاد، فمن كان والده ابن زنى فإنَّ ولدَهُ لا يكون كذلك إذا وُلِدَ من نكاح شرعي، وهكذا أحفاده.
مسألة 792: يثبت النسب بالزنى كثبوته بالبنوة الشرعية، ويترتب عليه جميع لوازم النسب، من حرمة التزوج منه، وثبوت حق الولاية عليه والحضانة له، ولزوم إنفاق القادر منهما على العاجز، وصلة الرحم، وغير ذلك، ما عدا الميراث، فإنَّ ولد الزنى لا يرث أبويه ولا يرثانه إن وقع الزنى منهما معاً، وإلا فإن كان الزنى من أحدهما دون الآخر ورث الولدُ المعذورَ من أبويه وورثه، دون الزاني.
كذلك فإن لحياته حرمةً هي كحرمة حياة الإبن الشرعي، ولذا فإنه لا يجوز للأم إسقاط جنينها من الزنى، ولو قبل ولوج الروح فيه، إلا في موارد معينة نذكرها في محلها، وتثبت الدية والقصاص في قتله كثبوتهما في الولد الشرعي.
مسألة 793: إن الأصل في نسبة الولد لأبيه هو كونه من نطفته، كما أن الأصل ـ عندنا ـ في نسبة الولد إلى أمه هو كونه من بويضتها، دون أن يكون لاحتضانها له في رحمها وتولده منها مدخلية في هذه النسبة؛ وعليه فإنه لو لجأ الزوجان العقيمان ـ طلباً للوَلَد ـ إلى الطريقة المعروفة بــ (الرحم المستعارة)، وهي: (أن يُؤخذ «حويمن» من الرجل «وبويضة» من المرأة التي تعاني من مشاكل في الرحم تمنعها من الإنجاب، فتوضع النطفتان في رحم امرأة ثانية، فتلد طفلاً)، كان الطفل المتولد من هذه المرأة الثانية هو إبن صاحب الحويمن حتماً، أما والدته فالظاهر أنها صاحبة البويضة، لا مَنْ حَضَنتْهُ في رحمها وَوَلَدتْهُ.
هذا، وإنما يجوز اللجوء إلى هذه الطريقة في صورة ما لو كان الرجل زوجاً لكلا المرأتين، ولم يكن إخراج النطفتين ولا إدخالهما في رحم المرأة الثانية مستلزماً للإستمناء المحرَّم أو لكشف المرأة عورتها على الطبيب الرجل، لكنهم لو خالفوا هذين الشرطين، وارتكبوا الحرام، لا يكون الولد إبن زناً، ويتحقّق به النسب أيضاً.
مسألة 794: كما يتحقّق النسب بين الولد وصاحبي النطفتين إذا تم تكونه في الرحم وتولده منه، فإنه يتحقّق ـ أيضاً ـ بما لو تم جمع النطفتين خارج الرحم بطريقة ما يعرف في زماننا بــ (التلقيح الصناعي)، وهو: (أن يؤخذ «حويمن» من الرجل و«بويضة» من المرأة، فيجمعا في أنبوب خاص مدة الحمل، فيتولد منهما طفلٌ إنساني سوي)، إن ذلك الطفل المتولد هو إبن صاحبي النطفتين، ويتحقّق بتولده منهما بهذا النحو جميع صلاة القربى التي تتحقّق للمتولد من رحم الأم وبويضتها.
هذا، وإنما يجوز ذلك في صورة ما لو كان صاحبا النطفتين زوجين، ولم يكن إخراج النطفتين مستلزماً للوقوع في محرَّم آخر، كأن يضطر الرجل إلى الاستمناء بغير يد الزوجة، أو تضطر الزوجة إلى كشف عورتها على الطبيب الرجل من غير ضرورة مبيحة؛ فإنْ كان أحد صاحبي النطفتين ليس زوجاً للآخر، أو استلزم الإخراج وقوع الحرام منهما أو من أحدهما، كان آثماً، ولم يكن الولد إبن زنى، وتحقّق به النسب أيضاً.
مسألة 795: إذا أخذت الزوجة «حويمن» زوجها الميت بعد وفاته، بعد ما كان محفوظاً في بنوك مخصصة لحفظه، فإن الولد الذي تضعه يلحق بأبيه وأمه، لكنه لا يرث من أبيه، كما أن جواز قيام المرأة بهذا العمل لا يخلو من إشكال، والأجدر بها أن تحتاط وجوباً بترك وضع الحويمن في رحمها بعد وفاة زوجها.
مسألة 796: إذا وَاقَعَ المرأةَ أكثرُ من رجل، ثم حملت، فلإلحاق الولد بأبيه عدة صور:
الأولى: أن يكون الرجل قد طلق زوجته المدخولَ بها دون أن يتبين لها حمل، فتعتدُّ منه وتتزوج بغيره بعد انقضاء العدة، ثم يبين حملُها ويظهر، فالمرجع في إلحاقه بأحدهما هو ما سبق ذكره، أي: ملاحظة مضي مدة الإلحاق التي لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة ما بين تحقّق الدخول أو ما بحكمه وما بين تولده؛ فينظر في هذه الصورة: فإن انطبق معيار الإلحاق على الزوج الثاني دون الأول، ألحق بالثاني دون إشكال، وإن انطبق على الأول دون الثاني، ألحق بالأول، لكن يلزم منه بطلان نكاح الثاني، لأن معنى كونها حاملاً من الأول هو أن عدتها منه بعد طلاقها هي أن تضع حملها، وحيث إن الثاني كان قد تزوجها قبل أن تضع حملها ودخل بها، فإن معنى ذلك أنه كان قد تزوجها في عدتها من طلاق زوجها الأول، فيبطل نكاحها من الثاني، ولكن لا تحرم عليه مؤبداً مع جهلهما بالحال كما هو فرض المسألة؛ وإن أمكن لحوقه بهما معاً، بأن كانت ولادته لستة أشهر من وطىء الثاني، ولدون السنة من وطىء الأول، ألحق بالثاني وكان ولده؛ وإن لم يمكن لحوقه بأحدهما، بأن ولدته لأزيد من السنة من وطىء الأول ولدون الستة أشهر من وطىء الثاني، لم يلحق بأحدهما، وكان أبوه غيرهما.
الثانية: أن يطلق الرجل زوجته الدائمة طلاقاً بائناً، أو يتوفى عنها، أو تكون متمتعاً بها فيهبها المدة أو تنتهي مدتها، فيطأُها رجل آخر أثناء عدتها وطئاً معذوراً فيه، أو تدخل في نفسها مني غير زوجها غفلة أو قصداً أو قهراً أثناء عدتها البائنة؛ وحكمها أنه يجري فيها ما ذكرناه في الصورة الأولى من الوجوه، غير أنه لو أمكن إلحاقه بكلا الرجلين لم يلحق هنا بالرجل الثاني كما هو حكم الصورة الأولى، بل يجب الإقراع بينهما.
الثالثة: أن تكون المرأة في عصمة زوجها، أو في عدة طلاقها الرجعي منه، فيطأُها رجل شبهةً، أو تدخل منيَّ غير زوجها في فرجها غفلة أو قهراً أو قصداً أثناء كونها معه أو في العدة الرجعية لطلاقها منه؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية. وكذا لو كان وطؤها بالزنى، غيرَ أنه في صورة ما لو أمكن إلحاقه بهما لا يقرع بينهما، بل يلحق بالزوج لأنه ولد على فراشه.
الرابعة: أن تكون المرأة خلية من الزوج ومن العدة، فيطأها عدة رجال شبهة أو زنى؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية، فيُنظر إن كان يمكن لحوقه بواحد منهم بعينه فيلحق به، وإن كان لا يمكن إلحاقه بواحد منهم ينتفي عنهم، وإن كان يمكن إلحاقه بالجميع أقرع بينهم، فمن خرجت القرعة باسمه كان ولده، وثبت به النَّسب بجميع آثاره التي سبق ذكرها للإبن الشرعي أو لإبن الزنى.
مسألة 797: إذا وَلَدتْ زوجتان لزوج واحد وَلَدين، فاشتبها ولم تَعَرِفْ الأُمُّ ولدها، أقرع بينهما فمن خرج اسمها كان الولد لها، وكان الثاني للثانية، وتحقّق به النسب بجميع لوازمه. وكذا يقرع بينهما لو كان الولدان لزوجين فاشتبها.
مسألة 798: إن ما ذكرناه من ثبوت النسب اعتماداً على مضي المدة لأقل الحمل أو لأقصاه، أو اعتماداً على القرعة مع التعدد وإمكان إلحاقه بالجميع، إنما هو حيث لا تتيسر طريقة أخرى جازمة لرفع الإشكال والإشتباه، فإنْ صحَّ ما يذكره أهل الخبرة بشأن وجود فحوصات طبية دقيقة يمكن الجزم من خلالها ببنوة طفلٍ لوالدٍ بعينه، لزم العمل بها وترتيب الأثر على نتائجها وتركُ الوسيلتين الظنيتين الآنفتي الذكر، فلو ألحق الولد به اعتماداً على إحداهما ثم تبين له بالفحص الطبي الجازم أنه ليس ولدَه لزمه العمل بمقتضى علمه المتأتي من الفحص الطبي، وهكذا.
مسألة 799: إذا اختلف الزوجان في تحقّق الدخول الموجب لإلحاق الولد ـ أو ما بحكمه ـ وعدمه، فادَّعته المرأة ليُلحق الولد به وأنكره الزوج، كان القول قول الزوج بيمينه؛ وكذا لو اختلفا في ولادته، فنفاها الزوج وادَّعى أنها أتت به من خارج؛ أما إذا اختلفا في المدة ـ مع الإتفاق في أصل الدخول أو ما بحكمه والولادة ـ فإن ادّعى الزوج ولادته لدون ستة أشهر، وادّعت هي خلافه، كان القول ـ أيضاً ـ قول الزوج مع يمينه، وإن ادّعى ولادته لأزيد من أقصى الحمل، وأنكرت هي، كان القول قولها مع يمينها، ويلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
الفرع الثاني: ما به يثبت النسب
ونريد به بحث مدى إمكان التعويل على الإقرار والشهادة، من حيث إنهما إخبار بتحقّق النسب بالإلحاق بالنحو المذكور آنفاً، والنظر في مدى كفايتهما في ثبوت النسب في حق الغير، فهنا أمران:
الأول: الإقرار
مسألة 800: إذا أقر شخص ممن له أهليـة الإقـرار ـ بالنحو الذي بيَّناه في أحكام الإقرار ـ بأن هذا الشخص ولدُه أو أخوه أو جدُّه أو عمه أو غير ذلك من مراتب القرابة له، نفذ إقـراره ـ مع احتمـال صدقـه ـ في جميع الأمور التي يلحقه منها تبعة فيها غرم وخسارة، كوجوب الإنفاق على من أقر ببنوته أو أبوته، وكحرمة الزواج منه، وكإشراكه في نصيب من المال الذي كان سيرثه وحدَه لو لم يُقرَّ بقرابته منه، ونحو ذلك؛ وأما ثبوت النَّسب بهذا الإقرار: فإن كان ببنوة ولدٍ صغير له، وكان أمرُه بيده، واحتُمل صدقه في إقراره عادةً وشرعاً، ولم يكن ثمة مدَّعٍ آخر لبنوته، ثبت به النسب بينهما، وترتبت عليه جميع لوازم النسب من الميراث والولاية والحضانة والإنفاق وغيرها، دون أن يُعتدَّ بإنكار الصغير لذلك بعد بلوغه، إلا أن يأتي بدليل جازم على العدم. وكذا يثبت به النسب بين أولادهما وبين سائر طبقات القرابة، مع جميع لوازمه أيضاً، وإن كان ينبغي لهم مراعاة الاحتياط في ذلك بما يناسب كل أثر من آثار النسب، فيدع التزوج ممن يحرم عليه التزوج منه على تقدير ثبوت النسب، ويتراضون على الميراث، ويتواصلون فيما بينهم كما يتواصل الأرحام، ونحو ذلك، وبخاصة مع إنكار الطرف الآخر لذلك النسب.
وأما إن كان المُقرُّ به هو بُنوةَ الولد الكبير أو أبوته أو أخوته أو غير ذلك، فلا يثبت به النسب إلا مع تصديق الآخر له وإقراره به، وحينئذ تثبت آثار النسب من الولاية والإنفاق والتوارث وغير ذلك؛ نعم في ثبوت التوارث بينهما مع وجود الوارث الآخر لأحدهما أو لكليهما إذا لم يكن مقراً لهما إشكال، وكذا يشكل ثبوت التوارث بينهما وبين غيرهما من سائر الأقارب مع عدم إقراره بالنسب، فلا بد من مراعاة الاحتياط في الموردين بالنحو الذي ذكرناه آنفاً في مورد الاحتياط في الولد الصغير.
مسألة 801: في كل مورد لا يثبت فيه النسب أو آثاره لغير المتوافقين على مضمون الإقرار من سائر الأقارب المشتركين في الميراث فإنه لا يُلزم المنكر بتحمل شيءٍ من نصيب المُقَرِّ به، ولذلك موارد نستعرضها ـ مع بعض الفروع المناسبة ـ على النحو التالي:
الأول: إذا أقر الوارث بقرابة من هو أولى منه دفع ما في يده إليه. وإن أقر بقرابة من يساويه في طبقة القرابة دفع إليه بنسبة نصيبه من الأصل. ولو أقر بمن هو أولى منه، كأن أقر عمُّ الميت بوجود أخ للميت، ثم أقـر ـ مـرة ثانية ـ بوجود ولد لذلك الميت، فإنْ صدَّقه أخو الميت بوجود ولد له دفع الميراث إلى الولد، وإنْ كذَّبه، لزم العمَّ دفعُ الميراث إلى الأخ، ولزمه ـ أيضـاً ـ دفعُ عِوَضه للولد. ولو أقرَّ للميت بولدين دفعة واحدة، فأنكر كل منما أخوة الآخر له، لزم المقرَّ دفع المال إليهما، وعليهما أن يتداعيا للفصل بينهما.
الثاني: إذا أقر إبن الميت بوجود ولد آخر له، ثم أقر بوجود ولد ثالث، فأنكر الثالثُ الثانيَ، فإن لم يكن نسبُ الأخيرين معلوماً من طريق آخر، كان للمقر ثلث المال، لاعترافه بوجود أخوين له لهما الثلثان الباقيان، وكان للثالث نصف التركة، لعدم اعترافه إلا بأخ واحد له هو المُقِرُّ، أي الولد الأول، فيبقى من التركة سدس، أي ما نقص من نصيب الأول لولا إقراره بأخوة الثاني، فيدفع لهذا الثاني بسبب إقرار الأول به. هذا إذا كان نسب الأخيرين مجهولاً، وأما إن كان نسب الأخيرين معلوماً لم يؤثر إنكار الثالث للثاني، فيوزع المال بينهم أثلاثاً.
ويثبت نفس الحكم في صورة ما لو كان للميت ولدان فأقر أحدهما بثالث وأنكره الآخر، فإنه يتم توزيع التركة بالصورة السابقة، دون أن يثبت نسبُ المقَرِّ به، فيقع الغرم على من أقرَّ به فيدفع إليه السدُسَ، دون من أنكره.
الثالث: إذا كان ورثة الميت إخوته وزوجته، فأقرت الزوجة بولد له، فإن صدقها الإخوة كان ثُمن التركة للزوجة والباقي للولد، وإن كذبها الإخوة أخذوا نصيبهم وهو ثلاثة أرباع التركة، أما الربـع الآخـر فإنه يكـون ـ بمقتضى إقرارها ـ بينها وبين الولد الذي أقرت به، فتأخذ هي الثمن وما فضل من الربع فهو للولد.
مسألة 802: إذا مات صبي مجهول النسب، فأقر إنسان ببنوته، قيل: ثبت بذلك نسبه، ويكون ميراثه للمقر إذا كان للصبي مال، ولكنه محل إشكال.
الثاني: ثبوته بالشهادة
مسألة 803: يثبت النسب بشهادة عدلين، وتترتب عليه لوازمه من التوارث وغيره، ولا ينفع معها إنكار بعض الأطراف ما لم يأت ببيِّنة مضادة أو بدليل جازم؛ فيما لا يثبت بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل ويمين. ولا يضر بالبينة التي يثبت بها النسب ما لو كان الشاهدان من أقرباء المشهود بقرابته، فلو شهد أخوا الميت بولد له ثبت به النسب، وصار أولى منهما بميراثه إن كانا عدلين، فيما لا يثبت به النسب إن كانا فاسقين، وإنْ أُخذ بإقرارهما ولزمهما دفع الميراث إليه.
الفرع الثالث: في نفي الولد
مسألة 804: إذا نُسب الولد إلى أبيه لم يكن له أن ينفيه عنه دائماً، بل يختلف ذلك باختلاف الحالات التالية:
الأولى: إذا ثبت تولده منه جزماً، اعتماداً على ما يُدَّعى في زماننا هذا للفحص الطبي، لم يكن له نفي الولد، سواء ولده من زوجته الدائمة أو المتمتع بها.
الثانية: إذا وُلد على فراشه من زوجته الدائمة، وتم ما سبق ذكره من شروط إلحاقه به، وهما: إراقة مَنيِّه على فرجها أو فيه، ومضيُّ المدة المعتبرة لإمكان تولده منه، وعلمنا بتمامية شروط الإلحاق، أو أقَرَّ هو بتمامها، لم يكن له نفي الولد ولو باللعان، حتى لو كان قد واقعها غيره زناً أو شبهة، وحتى مع إمكان إلحاقه بغيره. وكذلك الأمر في المتمتع بها.
الثالثة: إذا سبق منه الإقرار ببنوته لم يقبل منه النفي ولو باللعان، سواء كان الولد من زوجته الدائمة أو المتمتع بها. وإن كان الأجدر بالمكلف مراعاة ما يقتضيه الاحتياط الوجوبي في فروع هذه المسألة في الزواج والطلاق والميراث وغيرها.
الرابعة: إذا لم يكن الأب زوجاً للأم أو كانت الأم في العدة البائنة منه، وكان قد واقعها ـ إضافة إليه ـ زناً أو شبهة أشخاص آخرون، وأمكن إلحاقه بالجميع، وألحق به بالقرعة، فليس للوالد نفي الولد بعد وقوع القرعة عليه، كما أنه ليس لغيره ممن وقعت عليه القرعة نفيه.
الخامسة: أن يكون الولد من زوجته الدائمة التي ما تزال في فراشه، ولم نعلم باجتماع شروط إلحاقه به، ولا هو أقر باجتماع الشروط أو ببنوة ذلك الولد، جاز له نفيه باللعان ـ بل قد يجب عليه ـ عند اتهامها بالزنى، بحيث كان نفي الولد بلحاظ تولده من الزنى، إذا عَلِم بعدم تكونه من مائه لعلمه بإختلال شروط الإلحاق به؛ فإذا نفى بنوته فكذبته زوجته وأكدت أبوته له، لَاعَنَها أمام الحاكم الشرعي بكيفية خاصة يأتي ذكرها في باب الطلاق، فإذا تلاعنا إنتفى الولد عنه وحرمت عليه مؤبداً.
وفي صورة ما لو كانت الحالة نفسها، لكنَّ الزوجة كانت متمتعاً بها، لم يجز له نفيه إلا مع علمه بعدم تكونه منه، فإذا علم بعدم تكوُّنِه منه، فنفاه عنه، فالمشهور أنه ينتفي بغير لعان، دون أن تحرم عليه أم الولد، لكنَّ ذلك مشكل فلا بد من الأخذ بالاحتياط.
تتمة في أحكام الحمل والولادة:
مسألة 805: لا يعتبر استيـلادُ المـرأة وإنجابُهـا الوَلَـد ـ مع الإمكـان ـ حقاً واجباً على المرأة تجاه زوجها بمقتضى عقد الزواج، بل إن الإنجـاب ـ في الجملة ـ واجب على المرأة كشرط ضمني ملحوظ عند تعاقد الزوجين، بحيث لو لم يشترطه الزوج صريحاً قبل التعاقد أو أثناءه كفى في لزومه ذلك التباني الضمني عليه، إلا أن تصرح المرأة باشتراط عدم الإنجاب، ويقبله الزوج؛ نعم، لا يقتضي ذلك الشرطُ الضمنيُّ لزوم استمرار الزوجة في الإنجاب على ما يوافق رغبة الزوج، بل إن لها الحق في أن تحدد المرات التي تنجب فيها بما يوافق رغبتها لا رغبة زوجها، إلا أن يشترط أحدهما على الآخر عدداً معيناً ويقبله الآخر، فيُلزمُ به حينئذ. هذا إذا كان الزوج راغباً في الإنجاب، أما إذا كان غير راغب فيه فليس لها إلزامه إن كانت هي الراغبة، كما أنه لا يحق له منعها من الحمل إن رغبت فيه، ولا يحق له أن يلزمها باستخدام موانع الحمل.
مسألة 806: لا يجوز للرجـل ـ ولا للمرأة ـ أن يفعل في نفسه ما يستلزم التعطيل الدائم للقدرة على الإنجاب ولو بعد ما أنجب ولداً أو أكثر، فضلاً عما لو فعله ابتداءً قبل أن يولد له. وعليه فإنه لا يجوز لأحد الزوجين أو لكليهما ـ ولو مع التراضي ـ أن يجري ما يصطلح عليه طبياً بــ (قطع الأنابيب أو ربطها) أو (استئصال الرحم أو المبيض) أو غير ذلك مما له علاقة بالتناسل، إذا أدى فقده إلى فقد القدرة على الإنجاب، نعم لا مانع منه عند الاضطرار وبالنحو الذي يتوافق مع الضرورة.
أما ما عدا ذلك من وسائل منع الحمل التي لا تستلزم إجهاض الجنين بعد إنعقاد نطفته واستقرارِه في الرحم، فإنه يجوز استخدامها في ذاتها من أجل تحديد نسل الأفراد، بل أو الأمة إذا اقتضت الضرورة العامة ذلك مما يُرجع في تفصيله إلى نظر الحاكم الشرعي وأهل الخبرة؛ شرط أن لا يكون فيها ضرر يجب تجنبه، وأن لا يستلزم استخدامها كشف الرجل عورته على الطبيب الرجل أو المرأة، ولا كشف المرأة عورتها على الطبيب الرجل دون المرأة، إلا مع الضرورة المبيحة لإرتكاب المحرم.
مسألة 807: إذا كان أحد الزوجين عقيماً، ولم يكن ذلك العقم مما ينبغي علاجه لدواعٍ صحية أخرى، بغض النظر عن مانعيته من الإنجاب، لم يجز للرجل ارتكاب ما يحرم عليه فعله من أجل التداوي للإنجاب، كالاستمناء بغير يد الزوجة، وكشف العورة على من يجب عليه سترها عنه، وغير ذلك، وكذا لا يجوز للمرأة كشف عورتها على الطبيب الرجل من أجل هذه الغاية، وإن جاز كشفها على المرأة الطبيبة؛ نعم يجوز للمرأة ـ عند الإنحصار ـ كشف العورة على الطبيب الرجل، إذا كان في ترك العلاج الذي يرجى معه الإنجاب تهديد لمستقبل حياتها الزوجية بالطلاق ونحوه، ويكون في ذلك حرج شديد عليها، فيجوز لها ـ حينئذ ـ بمقدار الضرورة، وكذا يجوز للرجل علاج العقم وارتكاب ما يحرم بسببه بالنحو المذكور إذا كان في تركه حرج عليه، كما هو الغالب.
مسألة 808: إذا انعقدت نطفة الجنين واستقرت في الرحم لم يجز إسقاطه من الرحم، سواءً انعقدت نطفته من نكاح أو من سفاح، وسواءً عُلم أنَّه خَلْقٌ سوي أو مشوه أو لم يُعلم، وسواءً كان قد ولجته الروح أو لم تلجه، وسواءً في ذلك ما لو كان الذي أسقطه أمَّه أو غَيْرَها، وبطلب من أحد والديه أو كليهما أو من دونه، لكافر كان الجنين أو لمسلم، وفي بلد تسمح قوانينه بالإجهاض أو لا تسمح، ما عدا موردين:
الأول: أن يكون في بقاء الجنين هلاك الأم أو ضرر شديد يشبه الهلاك، كالشلـل أو الجنـون أو العمـى أو نحوهـا مـن الأمـراض الخطيـرة، فيجـوز لها ـ حينئذ ـ إسقاطه وحفظ نفسها، بل يجب عليها ذلك. ومن ذلك ما لو خافت المرأة على نفسها القتل بسبب بعض العادات المستحكمة في مجتمعها، وتوقف دفع القتل على إسقاطه؛ وذلك من دون فرق بين ما لو كان قد ولجته الروح أو لم تلجه.
الثاني: أن يكون في بقاء الجنين حرج شديد على المرأة بسبب العار الذي سوف يلحقها، ويكون على درجة من الشدة أنه يربك حياتها ويهدد استقرارها بنحو بالغ، لكن لا يجوز إسقاطه في هذه الحالة إلا قبل ولوج الروح فيه، فإن ولجته الروح حرم إسقاطه رغم ذلك ما دامت لا تخشى القتل.
أما لو أصاب الرجلَ حرجٌ بسبب حمل ذلك الجنين، كما لو كان من زوجة مُتمتَّع بها، ويحرجه إنكشاف أمره أمام أهله أو زوجته، فإن مثل هذا الحرج لا يبرر إسقاط الجنين، ولو كان ما يزال علقة.
مسألة 809: في كل مورد جاز فيه للمكلف إسقاط الجنين فإنه يجوز للطبيب ارتكابه ما دام واثقاً بكون المكلف معذوراً فيه، لكنَّ ذلك لا يعفيه من دفع الدية، إلا أن يشترط على طالب الإجهاض تحملها عنه، كما سنعرض له لاحقاً.
مسألة 810: إذا تسبب شخص بإسقاط الجنين، إما بالمباشرة، بأن فعلت الأم بنفسها أو فعل غيرها بها ما يوجب إسقاط الجنين، بمثل ضربها على بطنها أو دفعها بقوة لتقع ويسقط جنينها أو بوضع دواء في فمها أو بإدخال آلة فيها أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للإجهاض، وإما بالقيام بما ينتج عنه الإجهاض مما يعد كالمباشرة، وذلك كأن يحفر لها حفرة لتسقط فيها، أو يزين لها شرب دواء موجب للإجهاض دون أن تعلم بأثره ذلك، أو نحو ذلك مما يكون السبب فيه أقوى من المباشر، إذا تسبب شخص بالإجهاض بهذا النحو وجب عليه دفع دية الجنين التي سنبينها، سواءً كان عن عمد والتفات أو بدون تعمد ولا التفات، كالذي يحدث في حالة النوم أو الخطأ، وسواءً كان من أحد الأبوين أو من أجنبي، وسواء في ذلك الطبيب الذي يطلب منه الأبوان ذلك أو غيره، وسواءً في ذلك ما لو كانت الأم معذورة في إسقاطه أو غير معذورة؛ نعم إذا كانت الأم معذورة فاشترط عليها الطبيب تحمل الدية عنه سقطت عنه.
مسألة 811: إذا كان الحمل (نطفة) فأسقط، فديته عشرون ديناراً ذهبياً، وإن كان (علقة) فديته أربعون ديناراً، وإن كان (مضغة) فديته ستون ديناراً، وإن كان قد نشأ عظم فثمانون ديناراً، وإن كسي لحماً فمئة دينار، وإن ولجته الروح فديته ألف دينار إن كان ذكراً، وخمسمئة دينار إن كان أُنثى.
أما الفترة التي يكون فيها نطفة فهي أربعون يوماً منذ انعقاده، ثم يكون علقة أربعين يوماً، ثم يكون مضغة أربعين يوماً.
أما مقدار الدينار الشرعي فهو ما يساوي نصف ليرة عثمانية ذهباً رشادياً، فَينظُر قيمتَها حين دفع الدية بعملة بلده إن رغب في دفعها منها ويدفعها.
مسألة 812: تدفع الدية لورثة الجنين، وهم أبواه، بالدرجة الأولى مع حياتهما وإمكان توريثهما، فإن كان الجاني في إسقاطه هو أحدهما، وكان غير معذور ولا مخطئاً، انفرد الآخر بجميع الدية، وإن كانت أمه هي الجانية، وكان أبوه ميتاً، ورثه سائر أقربائه على حسب طبقات الميراث.
وفي جميع الحالات فإنه يجوز لمن له الدية أن يسامح الجاني بها، فتسقط عنه حينئذ، فإن كان غير معذور كان عاصياً لله تعالى، وتلزمه التوبة والاستغفار عسى أن يغفر الله له ويتوب عليه.
مسألة 813: يستحب للمسلم طلب الولد والإكثار منه، وبخاصة مع قدرته على كفالته وتربيته تربية حسنة، وقد ذكرت الأحاديث الشريفة عدة آداب للحمل والولادة نستعرض بعضها كما يلي:
الأول: أن يصلي كل من الوالدين ـ في ليلة زفافهما ـ ركعتين قبل المواقعة، وأن يكونا حين المواقعة على طهر من الحدث الأكبر والأصغر، وأن يدعو الزوج ـ في جملة ما يدعو ـ: «... فإن قضيت لي في رحمها شيئاً فاجعله مسلماً سوياً، ولا تجعله شرك الشيطان»، ويستحب أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ولداً تقياً ذكراً. كما يستحب أن يكون على وضوء كلما أراد جماع زوجته أثناء حملها. وأن يسمي حين الشروع في المجامعة، للحامل وغيرها.
هذا إضافة إلى ما يكون قد سبق ذلك من اختيار الزوجة التي تجمع الخصال الحميدة في نفسها وفي نسبها، واختيار الزوج الصالح.
الثاني: أن تحرص على الالتزام بالعديد من الآداب المأثورة في طعامها وشرابها مما هو مذكور في مظانه من كتب الحديث.
الثالث: ينبغي مساعدة المرأة عند ولادتها، بل يجب ذلك وجوباً كفائياً عند الخوف عليها أو على ولدها من التلف أو ما بحكمه، ويجوز للمرأة القابلة أن تولدها، كما يجوز لغيرها من النساء أن يساعدنها في ذلك، ويجوز لهن في مثل هذه الحالة النظر إلى عورة المرأة بالمقدار الذي يحتاج إليه؛ ولا يتوقف جواز النظر على عدم وجود الزوج القادر على توليدها. نعم إذا لزم أن يولدها الرجل عند الضرورة، لم يجز اللجوء إلى غير الزوج مع إمكان توليد الزوج لها، كما أنه لا يجوز أن يتولى ذلك الرجل الأجنبي مع وجود شخص من محارمها، وفي جميع الحالات فإنه لا يحل من اللمس والنظر المحرمين إلا مقدار ما تتأدى به الضرورة.
الرابع: يستحب غسل المولود عند وضعه إذا أُمِنَ عليه الضرر. والأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى، فإنه عصمة من الشيطان الرجيم كما ورد في الخبر. ويستحب ـ أيضاً ـ تحنيكه بماء الفرات وتربة الإمام الحسين y. وتسميته بالأسماء الحسنة، فإن ذلك من حق الولد على الوالد، وفي الحديث الشريف: (إن أصدق الأسماء ما يتضمن العبودية لله جل شأنه، وأفضلها أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم)، وعن النبي w أنه قال: (من ولد له أربعة أولاد لم يُسمِّ أحدَهم بإسمي فقد جفاني).
الخامس: تستحب الوليمة عند الولادة، ولو بعدها بأيام قلائل. وأن يحلق له تمام شعر رأسه في اليوم السابع ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة. وأن يختنه في اليوم السابع، وإن كان لا بأس بتأخيره عنه، ويولم عند ختانه، وإن كان يجوز أن يولم مرة واحدة بقصد ولادته وختانه إذا ختنه في اليوم السابع أو قبله، وتتأدى به السنَّتان. ويجب على الوالد ختان ولده الذكر قبل بلوغه، فإن بلغ غير مختون وجب عليه المبادرة إلى ختان نفسه، والختان واجب في نفسه، وشرط في صحة الطواف واجباً كان أم مندوباً، ولحج كان أو لعمرة، والأحوط وجوباً اعتباره في الصبي المميز إذا أحرم بنفسه دون ما لو أحرم به وليه، ودون ما لو كان غير مميز؛ وإذا ولد الصبي مختوناً سقط الختان، وإن استحب إمرار الموسى على المحل لإصابة السنة.
السادس: تستحب العقيقة عن المولود في اليوم السابع لولادته، ذكراً كان أو أنثى، فإن تأخر عن اليوم السابع لعذر أو لغير عذر لم يسقط عنه، بل لو لم يُعَقَّ عنه حتى بلغ استُحِب له أن يعق عن نفسه، وإذا لم يَعُقَّ عن نفسه في حياته فلا بأس أن يُعق عنه بعد وفاته؛ نعم تجزي الأُضحيَّة عن العقيقة، فمن ضَحَّى وجوباً أو استحباباً، أو ضُحِّي عنه، أجزأته عن العقيقة.
ولا بد أن تكون من الأنعام الثلاثة، الغنم والبقر والإبل، من أي أصنافها كانت، كما لا بد من بذل عين الحيوان وذبحه وتوزيعه بالكيفية التي ستأتي، فلا يجزي عنها بذل ثمنها والتصدق به؛ ويستحب أن تكون سمينة خالية من العيوب فتية، وأن يَعُق ذكراً عن الذكر وأنثى عن الأنثى، وأن تذبح وتقطع دون كسر عظم منها، ويتخير بين توزيعها لحماً أو مطبوخاً، فإن طبخها دعى إليها من المؤمنين عشرة فما زاد، ولو لم يكونوا فقراء، فيأكلون منها ويدعون للولد؛ ويكره أن يأكل منها الأب أو من يعوله، ولا سيما الأم.
مسألة 814: لا يجب على الأم إرضاع ولدها ـ لا مجانـاً ولا بأجـرة ـ إذا لم يتوقف حفظه على إرضاعها، كما لا يجب عليها إرضاعه مجاناً وإن توقف حفظه عليه، بل لها المطالبة بأجرة إرضاعه في الحولين بخاصة دون الزائد عليهما، فتدفع لها أجرتها من مال الولد إن كان له مال، وإلا فمن مال والده مع يساره وقدرته، أو من مال جده لأبيه مع عدم يساره أو كونه متوفى، ومع عدمه تعين على الأم إرضاعه مجاناً، إما بنفسها أو باستئجار مرضعة له من مالها بناء على وجوب إنفاقها عليه على الأحوط وجوباً، كما سيأتي في محله.
لكن، رغم ذلك، فإن الأم أحق بإرضاع ولدها إذا أرادته ورغبت فيه، فليس للأب تعيين غيرها إلا إذا طالبت بأجرة وكانت غيرها تقبل الإرضاع بأجرة أقل أو بدون أجرة، فإن للأب حينئذ أن يسترضع غيرها، وفي هذه الصورة إذا لم تقبل الأم بإرضاع الغير ولدها فأرضعته هي بنفسها لم تستحق بإزائه شيئاً من الأجرة.
مسألة 815: ينبغي أن يُرضع الولد بلبن أمه، ففي الحديث الشريف: (ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه)، نعم إذا كان هناك مرجح لغيرها، كشرافتها وطيب لبنها، فلا بأس باختيارها دون الأم. وحيث يراد أن ترضعه غير الأم فإنه ينبغي اختيار المسلمة العاقلة ذات الصفات الحميدة خَلقاً وخُلقاً، ففي الخبر عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (أنظروا من يُرضعُ أولادكم فإن الولد يشب عليه). هذا ولا ينبغي استرضاع الكافرة والحمقاء والزانية من اللبن الحاصل من الزنا، بل ولا المرأة المتولدة من الزنا.
مسألة 816: لا ينبغي إرضاع الولد أقل من واحد وعشرين شهراً، كما لا ينبغي إرضاعه فوق العامين، ولو تراضى الأبوان على فطامه قبل واحدٍ وعشرين شهراً لم يكن به بأس.
مسألة 817: الأم أحق بحضانة الولد ـ إن شاءت ـ إذا كانت مسلمة عاقلة مأمونة على الولد، وذلك بتفصيل سوف يأتي بيانه لاحقاً في مبحث خاص. (أنظر المسألة: 826 وما بعدها).
المطلب الثالث: في الرضاع
ونريد به بيان أحكام الرضاع من حيث كونه سبباً في نشوء قرابة بنحو خاص بين عدد من الأفراد، وبيان أثر هذه القرابة مقارنة مع قرابة المصاهرة والنسب، وذلك على قاعدة كون الرضاع أثراً من آثار العلاقة الزوجية إجمالاً؛ وقد استحسنا ذكره هنا بدلاً عن ذكره في فصل صفات الزوجين، لأننا لم نهدف هناك ـ منهجياً ـ إلى أكثر من تعداد الأشخاص الذين لا يجوز التزوج منهم من الأقرباء، أما ما هي القرابة وما هي أصنافها وبماذا يمتاز كل صنف عن الآخر، وما هي حقوق أفراد كل صنف بعضهم على البعض الآخر، فإنه بحث آخر له علاقة بآثار العلاقة الزوجية، لا بصفات الزوجين، فاقتضى ذلك تأخير أحكام الرضاع إلى هذا الفصل. وفيما يلي نستعرض أحكام الرضاع في مسائل:
مسألة 818: (الرضاع) هو: (قيام المرأة بإرضاع طفلٍ حليبَها)، ولا تتحقّق به القرابة إلا إذا وقع موافقاً لما يعتبر فيه من الشروط شرعاً، فتقع به القرابة وتترتب عليها آثارها الخاصة بها في دائرة معينة، على ما سنبيِّنه.
مسألة 819: لا يترتب على قرابة الرضاع سوى (المَحْرَمية) في الزواج ولواحقها، دون غيرها من آثار القرابة النَّسَبية، غير أن دائرة هذه المحرمية أضيق في الرضاع منها في النسب، كما يتبين من المقارنة بين مسائلهما التي ذكرناها في فصل صفات الزوجين. ومرادنا بــ (محرمية الزواج ولواحقها) هو: حرمة التزوج من أفراد معينين من الأقارب الرضاعيين، مع ما يترتب على ذلك من جواز النظر إلى ما عدا العورة منهم وكذا جواز لمسه. أما سائر الآثار، وهي التوارث والولاية والحضانة والإنفاق وبر الوالدين وصلة الرحم وغير ذلك، فإنه من آثار قرابة النسب، لا قرابة الرضاع.
مسألة 820: يشترط في الرضاع الموجب لنشر الحرمة أمور:
الأول: أن يكون حصول اللبن للمرضعة بعد الولادة لا قبلها، وأن يكون حملها الذي وضعته من نكاح شرعي، ومنه وطىء الشبهة؛ فلو حملت المرأة من نكاح غير شرعي فولدت فدر لبنها فأرضعت به طفلاً، لم تنتشر به الحرمة ـ على الأحوط وجوباً ـ ولو اجتمعت سائر الشروط، وكذا لو كانت حاملاً فدر حليبها أثناء ذلك، ولو قبل أن تضع حملها بقليل، فإنه لا ينشر الحرمة، فضلاً عما لو در من دون حمل. هذا، ولا فرق في الولادة بين الولادة التي تضع فيها ولداً تاماً وبين تلك التي تضع فيها سقطاً، إن صدق عليه اسم الولد عرفاً. كما أنه لا ضرورة لدر الحليب بعد الولادة مباشرة، فلو مضت مدة قصيرة بدون لبن عند الأم ثم تجدد، بحيث انتسب اللبن المتجدد إلى ولادتها تلك، نشر الحرمة، بخلاف ما لو مضت مدة طويلة على انقطاع لبنها بعد دره، أو على جفافه تماماً، بنحو لم يصدق استناد ذلك الحليب المتجدد إلى تلك الولادة، فإنه لا ينشر الحرمة حينئذ.
كذلك فإنه لا يضر بنشر الحرمة من ولادتها تلك ما لو طلقها زوجها أو توفي عنها، فتزوجت من غيره، ودخل بها الثاني وحملت منه أو لم تحمل، فإنها لوأرضعت بحليبها من ولادتها لزوجها الأول الذي ما يزال متدفقاً لم ينقطع، ولداً، نشر ذلك الرضاع الحرمة بين هذه الأم وهذا الولد وزوجها الأول.
الثاني: أن تكون المرضعة امرأة واحدة في تمام المقدار أو المدة التي تنتشر فيها الحرمة، فلو كان لرجل واحد زوجتان مرضعتان، فارتضع طفل من إحداهما سبع رضعات ومن الأخرى ثمان رضعات مثلاً، فرغم أنه قد تم له خمس عشرة رضعة من لبن رجل واحد، فإنه لا ينشر الحرمة لكونه من لبن امرأتين، لا امرأة واحدة.
الثالث: أن يكون اللبن منتسباً بتمامه إلى رجل واحد، فلو طلق الرجل زوجته بعد ولادتها منه فتزوجت غيره وحملت وولدت منه، فإذا أرضعت ولداً آخر من لبن زوجها الأول مدة من الزمن، ثم أرضعته بعد ولادتها من زوجها الثاني مدة أخرى، بحيث صدق على المدتين عنوان إنبات اللحم واشتداد العظم، لم ينشر هذا الرضاع الحرمة، لأنه من لبن رجلين.
وقد يصدق على ما لو ظلّت ترضع بلبن زوجها الأول بعد طلاقها منه ومنه وولادتها، بحيث أرضعت ولداً من لبن زوجها السابق سبع رضعات، ثم أرضعته بلبن زوجها الثاني ثمان رضعات، لم ينشر الحرمة أيضاً.
الرابع: أن يكون الارتضاع قبل تجاوز الولد العامين من عمره، فلو رضع أو أكمل الرضاع بعد استكماله السنتين لم ينشر الحرمة، أما المرضعة فلا يضر في نشر الحرمة بإرضاعها مضي أكثر من حولين على ولادتها التي حصل منها اللبن.
والمراد بالحولين مضي أربعة وعشرين شهراً هلالياً من حين ولادته، فإن ولد أثناء الشهر أُحتسِبَ من الشهر الخامس والعشرين مقدارُ ما مضى من شهر ولادته وأُكمل به العامان.
الخامس: بلوغ الرضاع في مدته أو في مقداره حد إنبات اللحم وشد العظم، وهو الذي يتحقّق في حده الأدنى من حيث المدة: برضاع يوم كامل على مدار الليل والنهار، ومن حيث العدد: بخمس عشرة رضعة متوالية. لكنه لا يُكتفى في نشر الحرمة بأحد هذين الأمرين من مرتبة (الحد الأدنى) إلا بشرط أن لا يتخلل رضاعه منها رضاعٌ من امرأة أخرى ولا تغذٍ بغير اللبن من طعام أو شراب، فيما يتحقّق في غير ذلك بمداومة ارتضاعه منها مدة غير قصيرة، شهراً أو أقـل أو أزيـد، وتنتشـر بـه الحرمـة ولو فصل بين رَضاعتـه منها ـ بيـن آونة وأخرى ـ رضاعَتُه من امرأة أخرى أو تَغَذِّيه بشيءٍ من الطعام والشراب، ما دام نبات اللحم واشتداد العظم مستنداً إلى رضاعه من لبن تلك المرأة. والمعيار في نبات اللحم واشتداد العظم هو المقدار المعتد به منهما عند العرف، لا ما يكون بحسب المقاييس العلمية الدقيقة. كذلك فإن المعيار في (الرضعة الواحدة) عند تقديره بالعدد، هو ما لو كان جائعاً فارتضع حتى ارتوى وشبع وترك الثدي من نفسه.
مسألة 821: لا يشترط في نشر الحرمة بالرضاع حصوله بامتصاص الطفل له من الثدي، فلو ألقي اللبن في فم الطفل أو شربه بقنينة أو من الكوب انتشرت به الحرمة.
كذلك فإنه لا يشترط فيه كون الأم واعية حين الإرتضاع منها، فلا يضر بنشر الحرمة ما لو كانت الأم نائمة أو مغمى عليها أو مجنونة حين الإرتضاع، بل ولا يضر فيه ما لو كانت ميتة فأكمل العدد برضعة منها بعد موتها، فإنه ينشر الحرمة ـ أيضاً ـ كما لو كانت حية.
مسألة 822: إن ما ذكرناه لنشر الحرمة في الشرطين الثاني والثالث من لزوم وحدة صاحب اللبن والمرضعة معاً إنما هو بلحاظ أن ثمة رضيعاً واحداً، ولم يرتضع رضاعاً كاملاً من لبن كلٍ من الفحلين ولا المرأتين، إذ إنه بفقد أحد هذين الشرطين لا تحدث بنوة رضاعية البتة بين الرضيع وبين كل من الفحلين والمرضعتين. أما لو تعدد الرضيع، وكان كل منهما قد ارتضع رضاعاً كاملاً من لبن فحلين أو امرأتين فلا يعتبر في تحقّق الأخوة بينه وبين من ارتضع معه إلا وحدة صاحب اللبن، لا المرضعة، وصورة هذه المسألة نذكرها كما يلي:
إذا ارتضع طفل من هذه المرأة رضاعاً كاملاً من ولادتها من زوجها الأول، ثم طلقها فتزوجت من غيره وحملت وولدت منه، فأرضعت بلبنها من زوجها الثاني طفلة رضاعاً كاملاً، لم تنتشر الحرمة بين ذلك الطفل وتلك الطفلة لعدم وحدة صاحب اللبن، فلا يكونان أخوين ليحرم أحدهما على الآخر من هذه الجهة، رغم وحدة المرضعة؛ وأما إذا اتحد صاحب اللبن فأرضعت زوجته طفلاً، فطلقها ثم تزوج من غيرها، فأرضعت زوجته الثانية هذه طفلةً، كان هذان الطفلان أخوين وحكم بحرمة كل واحد منهما على الآخر، بل وبحرمة أولاد كل منهما عليه؛ ومثله ما لو كان له زوجتان معاً فأرضعتا ولدين.
فالمناط ـ إذا ـ في تحقّق الأخوة الرضاعية هو وحدة الرجل المنتسب إليه اللبن الذي ارتضعا منه، سواءً اتحدت المرضعة أو تعددت، وهو أمر آخر مختلف تمام الاختلاف عن مفروض المسألة التي ورد ضمنها الشرطان الثاني والثالث.
مسألة 823: إذا تحقّق الرضاع الجامع للشروط صار صاحب اللبن أباً والمرضعة أماً للرضيع، وصار أباؤهما وأمهاتهما أجداداً وجدات له، وأولادهما إخوة وأخوات له، وأولاد أولادهما أولاد إخوة وأخوات له، وإخوتهما وأخواتهما أعماماً وعمات له، أو أخوالاً وخالات له، وكذا أعمامهما وأخوالهما وعماتهما وخالاتهما، وصار الرضيع إبناً أو بنتاً لهما وأولاده أحفاداً لهما.
هذا، وإننا قد ذكرنا في بعض مسائل المطلب الثاني من الفصل الأول تفصيلاً لمن يحرم بالرضاع من الذكور والإناث عند حديثنا فيه عمن يحرم التزوج منه بالقرابة. (أنظر المسألة: 585 وما بعدها).
مسألة 824: يثبت الرضاع المُحرِّم بأمرين:
الأول: العلم أو الاطمئنان بحدوثه، ولو بسبب إخبار شخص أو أكثر.
الثاني: شهادة العدلين بوقوعه شهادة تفصيلية يُذكر فيها سبب التحريم، من كونه بالمدة أو بالعدد أو بالإنبات، فلا تكفي الشهادة الإجمالية، كأن يشهد بوقوع الرضاع المحرم، أو يشهد بأن فلاناً هو إبن فلان من الرضاع.
هذا، وفي ثبوته بشهادة رجل وامرأتين، أو شهادة أربع نساء إشكال.
مسألة 825: الأَوْلى منع النساء من الاسترسال في إرضاع الأطفال حذراً من نسيانهن وحصول الزواج بين المحارم دون التفات.
المطلب الرابع: في حقوق الأقرباء
تمهيد:
لقد أولت الشريعة الإسلامية المطهرة القرابة النَّسَبية عناية مميزة، فجعلتها ركيزة التضامن العائلي، ثم التضامن الإجتماعي بعامة، فجسدت هذا التضامن بين الأقرباء في عدة حقوق واجبة، وجعلتها مواكبة لهم في شتى مراحل حياتهم، فالولاية ـ ومعها الحضانة ـ حق واجب للولد على والديه يواكبه حتى بلوغه، وبر الوالدين ـ ومنه طاعتهما ـ حق واجب للوالدين على الولد يواكبه مدى العمر، وإنفاق الآباء والأبناء بعضهم على بعض حق واجب على القادر ما دام الآخر عاجزاً، وأما صلة الرحم فحق واجب لكل من يراه العرف رحماً قريبة، فيمتد أثرها في التواصل والتعارف والتعاون إلى مدى أبعد من دائرة الأسرة التي يظلها سقف واحد، فيصل إلى أفراد كثيرين وأماكن متباعدة. ثم إن ذلك التضامن وما يتجلى به من حقوق لا يقف عند حدود الحياة، بل هو يتعداها لما بعد الموت ليكون الأقربُ من الأرحام هو الأولى بالمال الذي تعب ذلك المُتَوفَّى في تحصيله، فيتوِّجُ تشريعُ الميراثِ قِمَّةَ هذه الحقوق. ورغم ما لقرابة المصاهرة والرضاع من أهمية في تحقيق المزيد من التعارف والتواصل فليس لها تلكم الحقوق، وهو ما سبق ذكره مفصلاً في مبحث (القرابة) من هذا الفصل.
لكنَّ ثمة حقاً مُميَّزاً لا يختص وجوبُه بالأقرباء النسبيين، وهو وجوب الإنفاق على كل إنسان فقد القدرة على تحصيل القوت إلى درجة صار معها في معرض الهلاك، بل إن الإنفاق واجب على الدابة الضالة التي يخشى عليها من الموت جوعاً كما سبق ذكره في مبحث اللقطة (أنظر فقرة «الثاني» من المسألة: 339)، إضافة إلى مسؤولية المكلف عن الحيوان المملوك له ولزوم تقديم ما يلزمه من طعام وشراب ومأوى، إجمالاً، كما سيأتي بيانه.
إن هذه الموضوعات هي ما سوف نستعرضه في ثلاثة فروع على النحو التالي:
الفرع الأول: في حقي الولاية والحضانة
وفيه مسائل:
مسألة 826: الولاية: (حق، يقتضي أولوية الأب أو الجد للأب أو من يقوم مقامهما، برعاية القاصر لصباً أو جنون أو سفه في العديد من أموره، حتى يبلغ درجة الأهلية)، وهي التي ذكرنا تفاصيلها في مباحث المدخل من الجزء الثاني من هذا الكتاب (فقه الشريعة)، والتي يظهر لمن يراجعها عناية الشريعة بكفالة القاصر وتعيين من يرعاه ويتولى تدبير شؤونه في صحته النفسية والجسدية وفي شتى أموره الدينية والدنيوية، وذلك حتى يبلغ عاقلاً رشيداً، وإلا استمرت ولايتهما عليه ما دام غير كامل العقل بالخلو من الجنون والسفه. وهذه الولاية الشاملة حق واجب للولد على أبيه أو جده لأبيه، لمكان تولده منهما وعيشه بينهما ولزوم قيامهما بمقتضيات حفظه التي لا تقف عند حدود طعامه ولباسه وسكنه، بل تشمل لزوم العناية به بشتى احتياجاته.
أما «الحَضانة» فهي في المصطلح الفقهي: (حق، يقتضي أولوية شخص بعينه، بأن يتواجد الولد عنده ويكون معه وفي «حضنه»، ليدبره في أموره العادية، من طعامه ولباسه ونومه ودفع الأذى عنه، ونحو ذلك من الأمور التي ترجع إلى «شخصه» بخاصة)، وهي نفسها بعض الأمور التي يتولاها الولي بحكم إشرافه على «جميـع» شـؤون الولـد، والتـي تتميـز بكونهـا ـ غالبـاً ـ في مرحلة الطفولة الأولى التي يحتاج الولد فيها إلى «حضن» يسكن فيه ويطمئن له. إن حق الحضانة هذا قد أعطته الشريعة للأم بكيفية خاصة، ربما لأنها أليق وأجدر بكفالة الولد ورعايته في فترة خاصة، هي مدة رضاعه وفترة صباه الأولى، في حين يبقى الولد في الدائرة العامة لولاية الولي خلال مدة الحضانة بتمامها، وبنحو لا يتعارض مع حق الأم في حضانته؛ كما أن الشريعة ميزت حق الحضانة عن حق الولاية، إذ إنه في بعض الموارد التي ستأتي تعطى الأم حق الحضانة لفترة أطول بسبب اختلال بعض الشروط المعتبرة في الحاضن رغم كونه ولياً، كما سيأتي. إن جميع ما يتعلق بالولاية قد بحثناه سابقاً في الجزء الثاني من فقه الشريعة في ص: 24، وما بعدها، فيما لا بد من تفصيل الأحكام المتعلقة بالحضانة ـ كحقٍ للولد على أبويه ـ في المسائل التالية، بما في ذلك ما يمكن أن يتقاطع منها مع حق الولاية.
مسألة 827: حيث يعيش الوالد والوالدة معاً في مسكن واحد فلا غرو أن الولد سيكون معهما وفي رعايتهما دون إشكال فيه، وأما حيث يفترقان بطلاق أو فسخ، مع اجتماع شروط الحضانة الآتية فيهما فإن الولد الذي لم يبلغ السنة السابعة هلالية يبقى مع والدته وفي حضانتها حتى يتم السنة السابعة من عمره على الأقرب، تسكنه حيث تسكن، وترعاه في أموره العادية التي ذكرناها في المسألة السابقة، دون أن ينازعها الوالد ـ ولا غيره ـ فيه من هذه الجهة، ذكراً كان الولد أو أنثى، ما لم تتزوج. فإنْ انقضت هذه المدة، أو تزوجت الأم خلالها، صارت الحضانة للوالد، وحينئذ يجوز له فصل الولد عن أمه أو إبقاؤه معها.
هذا إذا افترق الوالدان بطلاق أو فسخ خلال فترة السنوات السبع من عمر الولد، أي: خلال فترة الحضانة التي هي حق الأم، أما إذا حدث الفراق بموت الزوج خلال هذه الفترة ـ أو بعدها وبعد انتقال الحضانـة إلى الوالد ـ فإن الأم حينئذ أحق بحضانة الولد إلى أن يبلغ رشيداً، من وصي أبيه ومن جده أو جدته لأبيه أو غيرهما من أقاربه، سواءً تزوجت الأم بعد ذلك أو بقيت دون زواج؛ كذلك فإن الوالد أحق بالولد من سائر أقارب الأم ـ فضلاً عن وصيها ـ إذا ماتت الأم خلال فترة أحقيتها بالحضانة؛ وأما إذا ماتت الأم بعد موت الأب وبعد استقلالها بحضانة الولد فالحضانة لجد الولد لأبيه، فإن فقد فالحضانة لوصي الأب أو الجد للأب، فإن وجد الوصيان وتراضيا على أحدهما كان خيراً، وإن تنازعا أقرع بينهما؛ فإن فقد الوصيان، كانت الحضانة لسائر أقرباء الولد يترتبون في الأولوية حسب مراتبهم في الميراث، ومع التعدد والتساوي في المرتبة والتنازع على حضانته يقرع بينهم.
مسألة 828: يعتبر في من تكون له الحضانة من الأبوين وغيرهما توفر أمور:
الأول: العقل، فلا حضانة للمجنون خلال فترة جنونه.
الثاني: أن يكون مأموناً على القيام بشؤون الحضانة بالنحو الذي يحقق السلامة للولد في نفسه وفي جسده وفي دينه.
الثالث: أن يكون الحاضن مسلماً إذا كان الولد مسلماً، فإن كان أحد الأبوين مسلماً دون الآخر ألحق الولد بالمسلـم، وكانت الحضانـة لـه ـ مطلقـاً ـ دون الكافر، وكذا حكم الولد المحكوم بإسلامه في صورة ما لو كانت الحضانة لأحد أقربائه بعد فقد الأبوين.
الرابع: أن تكون الأم خلال مدة استقلالها بالحضانة ـ بعد طلاقها وحياة زوجها ـ غير متزوجة، فإن تزوجت سقط حقها في حضانته.
فإذا فقدت الأم شيئاً من هذه الصفات خلال فترة ثبوت حق الحضانة لها سقط حقها فيها، وانتقلت الحضانة إلى من بعدها حسب أولويته؛ وكذا لو فقدها الأب أو الجد للأب، فإن حقهما بالحضانة يسقط وينتقل إلى الأولى بها بعدهما، وذلك من دون أن تسقط ولايتهما على الولد فيما هما وليان عليه إن بقيت أهليتهما للولاية، ومثال ذلك ما لو سقطت حضانة الجد للأب لعدم كونه مأموناً على الولد بسبب كبر سنه وعجزه عن القيام بشؤونه، فإنه مع بقاء أهليته للولاية بالعقل والإسلام يبقى ولياً عليه رغم عدم حضانته له.
مسألة 829: لا يعتبر لثبوت الحضانة للأم كونها هي التي ترضعه، فلو لم تكن قادرة على إرضاعه، أو كانت قادرة فطلبت أجرة مع تبرع غيرها به، فاسترضع الوالد غيرها، بقي حقها في الحضانة كما لو كانت هي التي ترضعه، وذلك لعدم المنافاة بين ارتضاعه من امرأة وبين حضانة امرأة أخرى له إذا أمكن حمله إلى المرضعة أو احضار المرضعة عنده، فإن لم يمكن ذلك ـ لتباعد الأماكن أو حيلولة الموانع ـ قُدِّم ما يقتضيه الإرتضاع بمقدار الضرورة، وبقي حقُّ الأم في الحضانة قائماً، وكان لها العمل به بعد زوال المانع.
مسألة 830: إذا فقد الحاضن شيئاً من شروط الأهلية المعتبرة فيه، وسقط حقه في الحضانة، ثم وَجَدَ ما فَقَدَ وتَمَّتْ فيه الشروطُ، عادَ حقُّه فيها، وذلك كالأم المطلقة إذا تزوجت ثم فارقت زوجها الثاني وعادت خليَّة خلال السنين السبعة من عمر الولد؛ أو: كالأب يعرض عليه الجنون ثم يعقل بعد ذلك، أو يرتد ثم يتوب، أو نحو ذلك من الموانع الموجبة لسقوط حق الحضانة.
مسألة 831: لا يجب على من له حق الحضانة مباشرة الحضانة بنفسه، بل يجوز له إيكالها إلى غيره مع وثوقه بقيامه بها على الوجه المطلوب.
مسألة 832: الحضانة كما هي حق للوالدين أو غيرهما بالنحو الذي ذكرناه، فإنها حق للولد عليهم، فإذا امتنعوا عنها أجبروا عليها؛ غير أنه يحق لغير الولي ممن له حق الحضانة، كالأم وأبيها وأمها ونحوهم من أقارب الولد ـ ما عدا وليه، وهو أبوه وجده لأبيه ـ أن يأخذ أجرة على الحضانة من مال الولد إن كان له مال ولم يكن ثمة متبرع بها، فإن لم يكن له مال بَذَلَ الأجرة وليُّه من ماله، فإن لم يكن له ولي وجب على الأم ونحوها ممن تجب نفقته عليه حَضانَتُه مجاناً أو بذل الأجرة لمن يحضنه إن كان الحاضن غيرها؛ فإن وُجد متبرع سقط حق الحضانة عن طالب الأجرة، بل وكذا يسقط مع طلبه أجرة أزيد من غيره.
مسألة 833: حق الحضانة من الحقوق التي تقبل الإسقاط، فيسوغ لمن له الحق أن يتنازل عنه لغيره ممن يليه في سلسلة مراتب الأولوية من أقارب الطفل إذا كان جامعاً للشروط، دون الأجنبي، بعوضٍ كان تنازله عنه أو بدون عوض، فإذا قبل الآخرُ ثبت الحق له دون المتنازِل عنه، ولم يكن له الرجوع عنه، وإذا رجع عنه لم يرجع إليه؛ فإن كان الذي تنازل له غير جامع للشروط، أو كان ثمة من هو أولى منه، لم يصح التنازل ولم يسقط عنه الحق.
مسألة 834: حق الحضانة يقتضي سكن الولد مع من له حق حضانته، فلو كانت الحضانة للأم ساغ لها أن تسكنه حيث تسكن، وليس لوليه أن يلزمها بالسكن في موضع معين، ولو فرض عدم وجود مسكن للأم الحاضنة بعد طلاقها أو ترملها فليس لها أن تطالب الولي بتأمين مسكن لها لتحضن فيه ولدها، سواءً من ماله أو من مال الولد، ويكفي في مسكن الأم أن يكون لائقاً بها ولو بتبرع الغير به أو بسكنها مع زوجها إذا تزوجت بعد ترملها، أو نحو ذلك، فإن فقدت المسكن، أو وجدته ولكن لم يكن لائقاً ولا مناسباً لطفلها، بحيث لم تعد مأمونة على الولد، سقط حقها في حضانته حتى تجد المسكن المناسب.
هذا، وكما لا يسوغ للولي أن يتدخل في سكن الطفل ولا في غيره من شؤون حضانته في إطار ما هو عمل الحاضن ووظيفته التي ذكرناها، وذلك في كل مورد يكون الحاضن فيه غير الولي، فإنه لا يسوغ ـ أيضاً ـ أن يقوم الحاضن بشيء من أعمال الولي، من قبيل حفظ أمواله واستثمارها، وشؤون تأديبه وتوجيهه، ونحو ذلك مما هو من صلاحيات الولي؛ وعلى كل حال، فإنه ينبغي أن يتفاهم الولي مع من له حق الحضانة ـ وهو الأم غالبـاً ـ على كيفية القيام بشؤون الولد، وأن ينسقا العمل بينهما في الإتجاه الذي يحفظ حق كل منهما ويحقق مصلحة الولد.
مسألة 835: لا يقتضي حق الحضانة كون نفقة الولد خلال مدة حضانته على الحاضن إذا لم يكن هو الذي تجب نفقته عليه، فقد يكون الحاضن هو المنفق وقد يكون غيره، وتفصيل ذلك سيأتي في مبحث آخر. (أنظر المسألة: 838).
مسألة 836: إذا حُرم من له حق الحضانة من حضانة الولد في تمام المدة أو بعضها ـ ولو عدواناً ـ لم يكن على من حَرمَه تدارُك ما فات من حقه بقيمة أو نحوها.
مسألة 837: تنتهي الحضانة ببلوغ الولد رشيداً، فإذا بلغ رشيداً لم يكن لأحد حق الحضانة عليه، حتى الأبوين فضلاً عن غيرهما، بل يملك أمر نفسه ويتخير في الانضمام إلى من شاء منهما أو من غيرهما، سواءً في ذلك الذكر أو الأنثى؛ نعم إذا كان انفصاله عنهما موجباً لعيشه في حالةٍ مخالفةٍ لمقتضيات السعادة والعيش الطبيعي، بحيث تستدعي إشفاق الوالدين على ولدهما منها، فأمراه بالعيش معهما إشفاقاً عليه، وجب عليه طاعتهما في ذلك براً بهما ودفعاً لتأذيهما.
الفرع الثاني: في نفقة الأقارب
وفيه مسائل:
مسألة 838: يجب على الولد الذكر الإنفاق على والديه، ويجب على الوالد الإنفاق على أولاده الذكور والإناث، وهذا المقدار من حق الإنفاق على الأقارب لا إشكال في ثبوته بالشروط التي ستأتي، غير أن الأقرب ثبوت النفقة لغير هؤلاء من الأقارب ممن نذكرهم على النحو التالي:
أولاً: كما يجب على الولد الذكر الإنفـاق على أبويـه فإنـه ـ أيضـاً ـ يجب على الولد الأنثى أن تنفق على أبويها.
ثانياً: كما يجب على الولـد المباشـر ـ ذكـراً كـان أو أنثى ـ الإنفاق على الأبوين فإنه ـ أيضاً ـ يجب على الأحفاد والأسباط ذكوراً وإناثاً أن ينفقوا على الأجداد والجدات مهما علوا، من جانب الأب كانوا أو من جانب الأم، وذلك عند فقد الولد المباشر أو إعساره وعجزه عن الإنفاق.
ثالثاً: كما يجب على الوالد الإنفاق على أولاده الذكور والإناث فإنه يجب ـ أيضاً ـ على الجد للأب وإن علا أن ينفق على أحفاده وأسباطه ذكوراً وإناثاً مع فقد الوالد المباشر أو عجزه عن الإنفاق، فإن فُقد الأجداد للأب أو أعسروا وجب على الأم، ثم وجب على أبيها ثم على أمها، ثم على أبي أبيها، ثم على أم أبيها، وهكذا يُلحظ الأقرب منهم فالأقرب، بما في ذلك ما لو اجتمعت الأصول مع الفروع، فلو اجتمع واحد من الأصول كجده لأمه مع واحد من الفروع كابن إبنه، كان حفيدُه أقربَ من جده وأولى بالإنفاق عليه.
هذا، ولا يثبت حق الإنفاق بالقرابة لغير الآباء والأبناء من الأقرباء، كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ولا لغيرهم من أبنائهم وبناتهم، وإن كان الإنفاق عليهم من خالص المال أمراً حسناً لما فيه من الوَصْلِ لهم والبرِّ بهم.
مسألة 839: إذا تعدد من يثبت عليه حق الإنفاق، كأن يكون للشخص المستحق للنفقة والد وولد، أو عدة أولاد، وجب على كل واحد منهم القيام بنفقته، فإن تصدى أحدهم وحقق له تمام كفايته سقط الوجوب عن الآخرين ما دام مكفياً، وإن حقق بعض كفايته، وجب على الجميع إكمال ما نقص عنه، بمن فيهم ذلك المتصدي.
مسألة 840: يشترط في وجوب الإنفاق على القريب فقره، بمعنى عدم وجدانه لما يحتاج إليه في معيشته فعلاً من طعام وكسوة وفراش وغطاء ومسكن ونحو ذلك، فلا يجب الإنفاق على الواجد لنفقته فعلاً وإن كان فقيراً شرعاً، أي: لا يملك مؤنة سنته؛ وأما غير الواجد لها فإن كان متمكناً من تحصيلها بالاستعطاء أو السؤال لم يمنع ذلك من وجوب الإنفاق عليه بلا إشكال، نعم لو استعطى فأُعطي مقدار نفقته الفعلية لم يجب على قريبه الإنفاق عليه، وهكذا الحال لو كان متمكناً من تحصيلها بالأخذ من حقوق الفقراء من الأخماس والزكوات والصدقات وغيرها، أو كان متمكناً من الاقتراض ولكن بحرج ومشقة أو مع احتمال عدم التمكن من وفائه فيما بعد احتمالاً معتدّاً به، فإن ذلك ـ أيضاً ـ لا يمنع من وجوب الإنفاق عليه إلا أن يجد ما ينفقه بإحدى هاتين الوسيلتين، وأما مع عدم المشقة في الاقتراض وتوفُّر فُرص الإيفاء فالظاهر عدم وجوب الإنفاق عليه.
ولو كان متمكناً من تحصيل نفقته بالإكتساب، فإن كان ذلك بالقدرة على تعلّم صنعة أو حرفة يفي مدخولها بنفقته ولكنه ترك التعلّم فبقي بلا نفقة، وجب على قريبه الإنفاق عليه ما لم يتعلّم، وهكذا الحال لو أمكنه الإكتساب بما يشق عليه تحمّله، كحمل الأثقال، أو بما لا يناسب شأنه، كبعض الأشغال التي لا تناسب بعض الأشخاص، ولم يكتسب لذلك، فإنه يجب على قريبه الإنفاق عليه.
وإن كان قادراً على الإكتساب بما يناسب حاله وشأنه، كالقوي القادر على حمل الأثقال، والوضيع اللائق بشأنه بعض الأشغال، ومن كان كسوباً وله بعض الأشغال والصنائع، وقد ترك ذلك طلباً للراحة، فالظاهر عدم وجوب الإنفاق عليه، نعم إذا مرت عليه أيام قد فاته فيها الإكتساب لو رَغِبَهُ، بحيث صار محتاجاً فيها فعلاً، وجب الإنفاق عليه فيها بخصوصها؛ كما يجب الإنفاق عليه في صورة ما لو ترك التكسب لاشتغاله بأمر يتنافى مع التكسب، كالمرابطة أو طلب العلم أو نحو ذلك.
مسألة 841: لا فرق فيما ذكرنا من عدم وجوب الإنفاق على القادر على التكسب بين الرجل والمرأة، فلو كانت المرأة قادرة على تحصيل نفقتها بالتكسب اللائق بها لم يجب على والدها أو ولدها الإنفاق عليها؛ نعم، لا يعد من القدرة على النفقة ما لو كانت قادرة على الزواج ممن يكفيها نفقتها، فلو لم تتزوج مَنْ هذه حالُها مع توفر الزواج اللائق بها لم تسقط نفقتها بامتناعها، ووجب على أقاربها الإنفاق عليها.
مسألة 842: لا يعتبر في المُنْفَق عليه من الأقرباء أن يكون مسلماً، ولا عادلاً، ولا ممن به علة كالعمى والشلل المُقعِد ونحوهما، نعم يعتبر في من عدا الأبوين أن لا يكون كافراً حربياً، والكافر الحربي هو: من يكون في حالة حرب مع المسلمين بالنحو المذكور في باب الجهاد.
مسألة 843: يعتبر في المُنْفِق توفر القدرة على الإنفاق على قريبه، وذلك بعد قيامه بنفقة نفسه وزوجته الدائمة بالنحو المناسب لاحتياجاته واللائق بشأنه، بما في ذلك ما يلزمه بذله في زواج نفسه ولو مع عدم اضطراره إليه، أو في إكرام ضيوفه وقضاء حوائج قاصديه، ونحو ذلك مما يعد من نفقته، ثم يَنْظُر ما يفضل عنه فيجب عليه إنفاقه في العاجز من أقربائه بقدر ما يسع منهم، فإن وسع جميع من تجب نفقته عليه منهم كان خيراً، وإن وسع بعضَهم قُدِّم الأقربُ فالأقرب، كالولد ـ مثلاً ـ فإنه مقدم على ولد الولد، فإن تساووا في درجة القرابة وزع الموجود عليهم بالسوية إن كان مما يقبل التوزيع ويبقى صالحاً للانتفاع، وإلا تخير في دفعه لمن يشاء منهم.
هذا، ولا يشترط في ثبوت النفقة كمال المُنْفِق بالبلوغ والعقل، فلو كان للصبي أو المجنون مال زائد عن نفقة نفسه وزوجته وجب على الولي بذله لمن تجب نفقته على ذلك الصبي أو المجنون.
مسألة 844: إذا لم يكن عنده ما ينفقه على قريبه، وكان متمكناً من تحصيله بالاكتساب اللائق بشأنه، وجب عليه ذلك، وإلا أخذ من الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة وغيرهما لفقره، وإلا استدان مع القدرة، وذلك على نحو ما تقدم تفصيله في مبحث نفقة الزوجة. (أنظر المسألة: 738).
مسألة 845: يقتصر في النفة الواجبة على الأقارب على نفقة القريب نفسه، فلا تشمل نفقة من يعوله من أفراد أسرته، كزوجته وأولاده، إلا أن يجب على المنفق من جهة أخرى، فيجب ـ مثلاً ـ على الوالد أن ينفق على ولده دون زوجته، في حين يجب عليه ـ أيضاً ـ الإنفاق على أولاد ولده هذا، وذلك بناءً على ما تقدم من وجوب الإنفاق عليهم من حيث أنهم أحفاده، وبنحو مستقل عن إنفاقه على أبيهم أو عدم إنفاقه؛ كذلك فإن على الولد أن ينفق على والده دون أولاده، لأنهم إخوته، وهكذا.
مسألة 846: لا تقدير لنفقة القريب الواجب بذلها له، فيكفي بذل ما يقيم حياته من طعام وكسوة ومسكن وغيرها بالنحو المناسب لحاله وشأنه، كخادمه ودابة ركوبه ونفقات علاجه وسفره ونحو ذلك مما مر ذكره في نفقة الزوجة في المسألة (731)؛ نعم، لا يعد من النفقة الواجبة أداء ديونه، ولا دفع ما ثبت عليه من فدية أو كفارة أو دية جناية أو نحو ذلك، بل ولا بذل مصاريف زواجه من مهر وغيره، وإن كان ذلك هو الأحوط استحباباً، ولا سيما في الأب مع حاجته إلى الزواج وعدم قدرته على نفقاته.
مسألة 847: لا يجب في نفقة الأقارب تمليك القريب ما يحتاج إليه من أعيان تذهب بالاستعمال، كالطعام والشراب، ولا الأعيان التي لا تذهب بالاستعمال كالمسكن والأثاث واللباس، بل يكفي توفيرها عنده وبذلها له على نحو الانتفاع، كما أنه يكفي في مثل الطعام بذله في دار المنفِق إلا مع وجود عذر يمنع المُنفَق عليه من تناوله في دار المنفِق، كبعد المسافة، أو وجود من يتأذى منه، أو نحو ذلك، فيجب ـ حينئذ ـ حمله إليه.
مسألة 848: تسقط نفقة القريب المستحقة له الآن إذا أسقطها عن المنفق، وتبرأ ذمته منها ولا يحق للمنفق عليه المطالبة بها بعد ذلك، فيما لا تسقط نفقته المستقبلية لو أسقطها، فتبقى ذمة المنفق مشغولة بها، وللمنفَق عليه أن يطلبها منه بعد الإبراء.
مسألة 849: إذا عجز المنفق عن الإنفاق لم يجب عليه تدارك ما فات منه، وكذا لو امتنع عنه مع قدرته عليه، وإن أثم بذلك، وذلك بخلاف ما مر في نفقة الزوجة في المسألة (740)؛ غير أنَّ لمن له الحق إجبارَه عند امتناعه، ولو باللجوء إلى الحاكم وإن كان جائراً؛ فإن لم يمكن إجباره جاز له أن يأخذ من ماله بمقدار نفقته مقاصَّةً، ولكن بعد استئذان الحاكم الشرعي على الأحوط وجوباً، فإن لم يمكنه ذلك جاز له أن يستدين على ذمته بإذن الحاكم الشرعي، فتشتغل ذمته بما استدانه ويَلزَمُ الممتنعَ قضاؤه، فإن تعذر الحاكم الشرعي كفاه استئذان بعض عدول المؤمنين بالاستدانة على ذمته.
تتمة في الإنفاق على المضطر:
مسألة 850: إذا اضطر شخص إلى أكل طعام غيره لإنقاذ نفسه من الهلاك أو ما يشبهه كالعمى والشلل ونحوهما، فإن كان المالك حاضراً، ولم يكن مضطراً إليه لإنقاذ نفسه، وجب عليه بذله له وتمكينه منه، لكن يسوغ له طلب العوض دون أن يشترط عليه ما يعجز عنه، وإلا عد ممتنعاً؛ وأما إذا كان المالك غائباً حين اضطراره إليه، ولم يمكنه الإتصال به أو بوكيله لاستئذانه، جاز للمضطر ـ بل وجب عليه ـ أن يرفع اضطراره بالأكل من طعامه بعد تقدير ثمنه وجعله في ذمته، على أن لا يكون أقل من ثمن المثل.
هذا، ولا فرق في الحكم المتقدم بين ما لو كان المضطر مسلماً أو غير مسلم، فيشمل كل ذي نفس محترمة.
مسألة 851: إذا اضطر شخص لغير الطعام من أموال الغير، كالدواء أو السلاح أو الثياب أو نحو ذلك مما يتوقف عليه حفظ نفسه أو عرضه، وجب على المالك ـ مع حضوره ـ بذله لـه بعوض أو بدونـه، وجـاز للمضطـر ـ مع غياب المالك ـ التصرف في مال الغير بمقدار الضرورة مع ضمان العوض.
الفرع الثالث: في حقوق الأقرباء الأخلاقية
ونريد بالحقوق الأخلاقية بعض ما حث الإسلام على مراعاته في عشرة الأقارب بعضهم لبعض، ذلك أن الإنسان قد يعزف عن معاشرة أهل بيته بالمعروف إتكالاً منه على رفع الكلفة بينه وبينهم، أو تشوفاً منه لتسامحهم معه وغض نظرهم عن هفواته، مما يطمعه في الاسترسال معهم وترك مراعاة الأدب واللياقة في تصرفه معهم، الأمر الذي قد يدخله في ارتكاب بعض كبائر الذنوب فيهم، كقطيعة الرحم وعقوق الوالدين وظلم الأقارب في أموالهم ونحو ذلك؛ في حين إن المؤمن الخلوق ينبغي أن يتبدَّى حسن خلقه مع أهل بيته قبل غيرهم، وذلك لما أثر في الحديث عن النبي (ص) أنه قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). هذا وليس للأقرباء حقوق خاصة سوى ثلاثة حقوق، هي: تأديب الولد، وبر الوالدين، وصلة الرحم، فيما هم في سائر الحقوق الثابتة للمسلم على أخيه المسلم سواء. لذا فإننا سوف نقتصر في هذا المبحث على ما هو خاص بالأقرباء من الحقوق الأخلاقية مما سنذكره في ثلاثة عناوين على النحو التالي:
أ ـ في تربية الولد:
مسألة 852: يجب على ولي الطفل القيام بما يكفل للطفل في مراحل عمره المختلفة سلامة الجسد والنفس والدين، وهي الأركان الثلاثة للشخصية الصالحة. ويجب على الولـي ـ من أجـل ذلك ـ تحصيل المعرفة التي تكفل له النجاح في ذلك، أو تفويض من يقوم بهذه المهمة عنه، وذلك بالحدود الموافقة لما هو لازم في الشريعة المطهرة، والتي عمادها حفظه أولاً: من الأذى في جسده بحمايته من الأمراض وبتقديم الغذاء الصحيح له؛ وحفظه ثانياً: من الأذى في نفسه بحمايته من الإرهاب والقهر والحرمان ونحوها من الأمور الموجبة لتشوه النفس وانحرافها عن الخط السوي وعجزها عن النهوض بصاحبها لمواجهة أعباء ومصاعب الحياة؛ وحفظه ثالثاً: من الإنحراف في دينه، وذلك بالحرص على تعليمه العقائد الحقة والمعارف الدينية الأساسية بالمقدار الذي يجعله مأنوس الذهن بها، فيقدر ـ بعد بلوغه ـ على تحصيل الاعتقاد الشخصي بها عن بصيرة ويقين.
مسألة 853: يجب على الولي أن يراعي في هندام ولده ومظهره الخارجي وما يرجع إلى حرمته بين الناس ما يجنبه هتك الحرمة والتشنيع عليه وتعييره بالنحو الذي يوجب له الأذى البالغ في نفسه وفي مستقبل حياته، وذلك كشؤون نظافته وألفاظه وسلوكه ولباسه ونحوها من أموره العادية.
مسألة 854: يجب على الولي أن يعلم ولده القراءة والكتابة بالمقدار الذي يُمَكِّنُه من تحصيل المعارف الواجبة مما ينحصر تعلمه بالقراءة والكتابة، أو الذي يمكنه من تحصيل ما هو واجب كفائي من المعارف والاختصاصات العلمية والمهنية، إضافة إلى وجوب تعليمه ما هو ضروري له في سلامة جسده ونفسه ودينه بالنحو الذي ذكرناه في المسألة السابقة، مما قد يتوقف تَعَلُّمُهُ على تعلُّم القراءة والكتابة. وإن كان ينبغي للولي أن يحرص على أن يكتسب ولده الأعلى من درجات العلم، بعد ما صار العلم أساساً في نجاح الإنسان في شتى ميادين الحياة.
مسألة 855: ينبغي أن يسلك الولي في أسلوب تربيته لولده ـ أو غيره ممن يتولاه ـ طريقة الرحمة واللين والتوجيه الهادىء الحسن، وأن يبتعد جهده عن العنف والشدة في القول والممارسة، بل إنه يحرم عليه استخدام العنف المؤدي إلى إيذاء الطفل نفسياً أو جسدياً بالضرب وغيره من أساليب القمع والإرهاب؛ وحيث لا بد من تأديبه بالضرب فإنه يجوز لوليه ضربه ثلاث أو أربع ضربات يراعي في شدتها أن لا توجب احمرار الجلد، أما غير الولي من الأقارب والمربين ـ ومنهم الأم ـ فإنه لا يجوز لهم ضربه بهذا النحو إلا بإذن الولي.
ب ـ في بر الوالدين وطاعتهما:
مسألة 856: ينبغي للولد أن يعاشر والديه بالمعروف والإحسان، فيحرص في علاقته بهما على أن يكون في أعلى درجات الأخلاق واللياقة، فيبذل لهما من نفسه كل خير مهما كان نفيساً أو مرهقاً له، منسجماً فيه مع قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }  [الإسراء: 24]، ويجنبهما من نفسه كل شر مهما كان تافهاً وضئيلاً، منسجماً مع قوله تعالى:{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [الإسراء: 23]. وكفى للأبوين فخراً، وللولد أجراً وثواباً، أن الله تعالى جعل النظر إلى وجههما حباً بهما نوعاً من أنواع العبادة، على ما ورد في بعض الأخبار.
مسألة 857: ينبغي للولد أن يحرص على طاعة والديه وتنفيذ رغبتهما، مهما كان متقدماً في العمر ووجيهاً عند الناس، ومهما كانت رغبتهما صعبة وشاقة عليه ما دام ذلك ممكناً له وضمن الحدود الشرعية التي أمر الله تعالى بمراعاتها؛ بل يجب عليه طاعة والديه في كل أمر نابع من شفقتهما عليه مما يصطلح عليه بــ (الأوامر الإشفاقية)، كما لو نهياه عن السكن في موضع مخوف، أو عن سفر فيه مخاطرة، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب مخالفتها تَأَذِّيهما النابع من إشفاقهما ولهفتهما عليه؛ وفي الحديث أن النبي (ص) أوصى رجلاً فقال له: (... ووالديك فأطعهما، وبُرَّهما حيين أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان).
مسألة 858: لا فرق فيما ذكرنا من لزوم البر بالوالدين والطاعة لهما بين ما لو كانا مسلمين أو كافرين، ولا بين ما لو كان المسلم منهما تقياً أو فاجراً، فقد ورد في الحديث عن الباقر y أنه قال: (ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبرُّ الوالدين، بَرَّيْن كانا أو فاجريْن).
ت ـ في صلة الرحم:
مسألة 859: يجب على المكلف أن يصل أرحامه من الأقارب ويحرم عليه قطيعتهم؛ والمراد بــ (الأرحام): (كل من يكون من الأقرباء من جهة الأب أو من جهة الأم على درجة من القرابة يراهم فيها العرف ممن تحسن صلته فيُمدح الواصل، وممن تقبح قطيعته فيُذم القاطع، فتشمل فيما نراه من ظاهر العرف ـ إضافة إلى الأرحام النسبيين الذين يحرم التـزوج منهـم من الذكـور والإنـاث ـ أولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، سواءً أولاد المباشرين من الأعمام والعمات والأخوال والخالات أو غير المباشرين، فإن أولادهم هم من الأرحام الذين يراهم العرف واجبي الوصل؛ وهكذا الأمر في غيرهم.
والمراد بــ (الوصل): (كل فعل أو قول يقصد به التودد إلى الرحم)، وذلك بمثل السلام عليه والسؤال عن أحواله، ولو بالمراسلة أو بالهاتف، وبمثل مهاداته وزيارته وعيادته إذا مرض، وتهنأته بأفراحه وتعزيته في أحزانه، ومساعدته إذا احتاج أو افتقر، ونحو ذلك؛ ويكفي منها أقل ما يتحقّق به الوصل ويُخرج به عن القطيعة، وإن كان الأفضل الحرص على الوصل بكل ما يقدر عليه فإن فيه الثواب الجزيل والخير العميم كما سيأتي، وقد ورد في ذلك الحديث عن الإمام الصادق (ع)، أنه قال: (صلْ رحمك ولو بشربة ماء، وأفضل ما توصل به الرحم كف الأذى عنها..)، وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (صلوا أرحامكم ولو بالتسليم،...).
هذا، ولا فرق في الرحم بين المسلم والكافر، ولا في المسلم بين التقي والفاجر، وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أن بعض أصحابه سأله: (تكون لي القرابة على غير أمري، أَلَهُمْ علي حق؟ فقال (ع): نعم، حق الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان: حق الرحم وحق الإسلام). كما أنه لا فرق في وجوب الوصل بين ما لو كان الرحم واصلاً أو قاطعاً، وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) ـ أيضاً ـ أنه قال في جواب من سأله عن صلة من يحرص على وصله فيستمر هو في قطيعته: (إنك إذا وصلته وقطعك وصلكما الله عز وجل جميعاً، وإن قطعته وقطعك قطعكما الله).
مسألة 860: ينبغي للمؤمن أن يشتد في صلة الرحم ويتجاوز بها الحد الواجب، وذلك لما ورد في فضلها وآثارها والحث عليها من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ومن الآيات الكريمة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21]، وقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]؛ وأما ما ورد فيها من الأحاديث فكثير، منها ما جاء في الحديث عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (إن الرحم معلقة يوم القيامة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني)، وعن النبي (ص) أنه قال: (أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنة، فإن ذلك من الدين). وعن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (صلة الأرحام تُحسِّن الخلق، وتُسَمِّح الكف، وتُطَيِّب النفس، وتزيد في الرزق، وتُنْسِىءُ في الأجل «أي تؤخره وتطيل في العمر»). وعنه ـ أيضاً ـ (ع) يرويه عن جده رسول الله (ص) أنه قال: (إن أعجل الخير ثواباً صلة الرحم). إلى غير ذلك من الأحاديث.

ص
533
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية