المبحث الثاني: في أحكام الأداء والتنازع

وفيه مسائل:
مسألة 282: إذا تم عقد الحوالة مستكملاً لشروطه انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرأت ذمة المحيل منه، فإذا استحق وفاؤه وطالبه المحال وجب على المحال عليه أداؤه بالنحو الذي التزم به، ويجري عليه ـ حينئذ ـ جميع أحكام الوفاء التي سبق ذكرها في باب الدين، من حكم الإلزام بالوفاء إذا امتنع عنه مع قدرته عليه، وحكم المقاصة، وحكم التفليس والإعسار، وغير ذلك من الأحكام المناسبة. فإذا أدّى المحال عليه الدين بالنحو المطلوب برأت ذمته منه أيضاً، وكانت حاله مع المحيل ـ من هذه الجهة ـ على صور:
الأولى: أن يكون المحال عليه مديناً للمحيل، ويكون التحويل مبنياً على كونه أداءً في قبال ما عليه، ويكون ما أداه بمقدار الدين الذي عليه، فلا يرجع المحال عليه ـ في هذه الصورة ـ على المحيل بشيء.
الثانية: كالصورة الأولى، لكنَّ ما أداه المحال عليه أكثر مما عليه تارة وأنقص منه أخرى، فإن كان أكثر، وكان بذل الزائد مبنياً على أخذ البدل من المحيل، جاز له الرجوع على المحيل بالزائد، وإلا لم يرجع عليه به؛ وإن كان المؤدى أنقص من الدين جاز للمحيل مطالبة المحال عليه بما بقي له في ذمته.
الثالثة: كالصورة الأولى، لكنَّ ما أحال به عليه من غير الجنس، ولم تكن الحوالة مبنية على كون الأداء في مقابل الدين؛ ففي هذه الصورة يرجع المحال عليه على المحيل بما أداه عنه، كما أن المحيل يستحق على المحال عليه دينه الذي له في ذمته.
الرابعة: أن تكون الحوالة على البريء، فإن ابتنت الحوالة على المجانية لم يرجع المحال عليه بشيء على المحيل، وإن ابتنت على الرجوع على المحيل بالبدل جاز له الرجوع عليه، فإن رجع وكان الدين المحال به حالاًّ وجب على المحيل ضمانه ولو قبل أدائه، وإن كان مؤجلاً لم يكن للمحال عليه الرجوع على المحيل قبل حلول الأجل ولو كان قد أداه قبل ذلك.
مسألة 283: يجري في الحوالة من حُكْم رجوع المحال عليه ما سبق أَنْ قلناه في الضمان، وهو: «إنَّ ما يرجع بـه الضامـن ـ إذا كـان قـد أَدَّى من مالـه ـ هو مقدارُ ما أَدَّى»؛ وعلى هذا الأساس فإنه لو أبرأ المحالُ المحالَ عليه من جميع الدين، أو تبرع به عنه لم يكن له أن يرجع على المحيل بشيء، وإذا أبرأه من بعض الدين أو تبرع به عنه متبرع لم يكن له أن يرجع عليه ـ أيضاً ـ إلا بمقدار ما أدى؛ وإذا كان قد أدى بغير جنس الدين لم يكن له الرجوع إلا بجنس الدين؛ هذا في الإحالة على البريء، أما إذا كانت الإحالة على المدين، وتبرع متبرع عنه بجميع الدين أو ببعضه، أو أبرأه المحال، منه، فإنه ليس للمحيل أن يرجع بدينه عليه إذا ابتنت الحوالة على كون المحال به في قبال الدين الذي له على المحال عليه، وإلا جاز له الرجوع عليه بدينه لأنه ما يزال باقياً في ذمته، فيما لا يجوز للمحال عليه الرجوع بما أداه عن المحيل من الدين، لتبرع غير المحال عليه به عنه أو إبرائه منه.
مسألة 284: كما تبرأ ذمة المحال عليه بأدائه الدين المحال به عليه، فإنها تبرأ بأمرين آخرين هما:
1 ـ إبراء المحال ذمة المحال عليه من الدين.
2 ـ أداء المحيل للدين بعد إحالته على غيره، وتفصيل ذلك أنه إذا كانت الحوالة الأولى مبنية على المجانية، وكان المحال عليه مديناً للمحيل، وكان أداؤه بطلب من المحال عليه، جاز للمحيل أن يرجع عليه بما أداه عنه، إضافة إلى حقه في الرجوع عليه ثانية بدينه الذي له عليه؛ وإن كانت الحوالة غير مبتنية على المجانية، وكـان الأداء بطلب من المحـال عليـه، وكان المحـال عليـه ـ أيضاً ـ مدينـاً للمحيل، كان لكلٍ منهما أن يرجع على الآخر بما أداه عنه، حيث تكون النتيجة ـ عملياً ـ هي: رجوع أحدهما على الآخر بما رجع به الآخر عليه، وما ذلك إلا لأن طلب المحال عليه الأداء من المحيل لا يعد إقالة حتى تنفسخ به الحوالة، بل تتداخل الحوالتان بهذا النحو الذي ذكرناه؛ أما إذا لم يكن بطلب منه فليس للمحيل أن يرجع عليه إلا بدينه الذي له عليه، وكذا ليس له الرجوع عليه إذا لم يكن مديناً له، ما دام لا يستحق عليه شيئاً.
مسألة 285: إذا طالب المحالُ عليه المحيلَ بما أداه عنه، فأدعى المحيلُ أن له عليه ديناً بمقدار المحال به، وأن ما أداه عنه هو في قبال دينه الذي عليه، فأنكر المحال عليه، كان القول قول المحال عليه مع يمينه إذا لم يُقدِّم المحيل بيّنة تثبت كونه مديناً له.
مسألة 286: إذا اختلف الدائن والمدين في كون العقد الواقع بينهما حوالة أو وكالة، فمع عدم قيام البيّنة على واحدة منهما يقدم قول منكر الحوالة.
تفريع فيه مطلبان:
المطلب الأول: في أنواع أخرى من الحوالة
وذلك أننا قد قلنا في التمهيد لهذا الباب: «إن ثمة حوالة هي غير الحوالة المصطلحة تبتني على عدم اشتغال ذمة المحال عليه للمحال»، ولما كان لها أنواع متعددة فإننا نريد بيانها في هذا المطلب من هذا التفريع، وذلك على النحو التالي:
مسألة 287: قد شاع في زماننـا هذا قيـام المحـال عليـه ـ مجانـاً أو بعوض ـ بخدمات مالية للمحيل دون أن تبتني الحوالة بينهما على انشغال ذمة المحال عليه بالمحال به للمحال، وذلك بطرق مختلفة، ومن خلال أفراد أو مؤسسات مالية متخصصة؛ ومن أجل الإحاطة بها نذكرها في أنواع:
الأول: أن يحيل الدائن مدينه بدينه على وكيله أو أمين صندوقه أوْ وَدَعِي له، (الوَدَعـيُّ هـو: الشخـص ـ أو المؤسسة ـ الذي تستودعه مالك)، أو على بريء لا يستحق عليه شيئاً.
الثاني: حوالة من سيكون مديناً له، كالإحالة بثمن مبيع يريد شراءه، أو بمهر زوجة يريد التزوج منها، أو نحو ذلك مما لا يدخل في الحوالة المصطلحة لعدم كونه ديناً ثابتاً في الذمة حين الحوالة.
الثالث: حوالة غير المدين، كحوالة من يريد التبرع له بمال من الأشخاص أو الجهات على غيره من فرد أو مؤسسة.
الرابع: الحوالة المبتنية على بيع أو قرض، وهي: أن يدفع شخص إلى آخر ـ فرداً كان أو مؤسسة كالمصرف ـ مالاً ليأخذ بدله في بلد آخر؛ وسيأتي تفصيل أحكام هذا النوع وغيره في المسائل التالية.
مسألة 288: تصح الحوالة في النوع الأول والثاني وتنفذ ولو لم يرض بها المحال، إذ إن للمدين فيهما إلزام الدائن بأخذ دينه من المحال عليه إلا أن يكون مخالفاً لحقه في الاستيفاء نوعاً ومكاناً وزماناً، فيعتبر رضاه حينئذٍ؛ أما المحال عليه فيعتبر ـ أيضاً ـ رضاه بها ولو من جهة كونه ملزماً بها لشرط أو نذر وشبهه. وكذا تصح الحوالة في النوع الثالث إذا رضي بها المحال والمحال عليه.
أما النوع الرابع من الحوالة، وهي الحوالة المبتنية على بيع أو قرض، فتصحّ إذا كانت موافقة للعنوان الذي لوحظ فيها، وهي من هذه الجهة على صورتين:
الأولى: أن يكون المال المدفوع والمأخوذ بدلاً عنه من جنسين مختلفين، وذلك كأن يدفع له في الكويت ألف دينار كويتي على أن يأخذ بدله في لبنان ثلاثة آلاف دولار، فتصح هذه الحوالة بعنوان البيع دون إشكال، وكذا تصح قرضاً مع إشتراط الوفاء بغير الجنس إذا كانت قيمة الجنس الآخر مساوية لقيمة الدين، وإلا بطلت بعنوان القرض.
الثانية: أن يكونا متماثلين في الجنس، فإن تساويا في المقدار صحت المعاملة قرضاً بدون إشكال، وتصح بعنوان البيع مع مراعاة الأحكام الخاصة به من كونهما من النقدين أو من المكيل والموزون أو كونهما نقداً أو نسيئة أو غير ذلك مما قد يضر بالبيع من الأحكام الخاصة به. وإن اختلفا في المقدار فهنا حالتان:
أ ـ أن يكون المدفوع أقل من المأخوذ بدلاً منه، كأن يدفع له في بيروت ألف دولار ويأخذ بدله في دمشق ألفاً وخمسين دولاراً، فتبطل قرضاً وتصح بيعاً نقداً لأنه من المعدود وتبطل نسيئة على الأحوط لزوماً.
ب ـ أن يكون المدفوع أكثر من المأخوذ، أي عكس الحالة الأولى، فتصح قرضاً لأن الزيادة ـ حينئذ ـ تكون من الدائن (وهو الدافع) للمدين فلا تضر بالقرض، وتصح بيعاً بالتفصيل المتقدم في الحالة (أ).
المطلب الثاني: في الحوالات المصرفية
تقوم المؤسسات المالية ـ حكومية كانت أو أهليـة ـ بدور كبير وفاعل في خدمة عملائها، وأهم هذه الخدمات تحويل ما يحتاجونه من أموال من مكان إلى مكان بوسائل وطرق متعددة تضمن سرعة التبادل التجاري والأمان في انتقال أموالهم، وهو أمر نبيّن أحكامه على النحو التالي:
مسألة 289: يختلف تحويل المال عبر المصارف على صورتين:
الصورة الأولى: إحالة المصرف عملاءه
وذلك بأن يصدر المصرف (صكاً) لعميله على أحد فروعه في الداخل أو الخارج ليأخذ منه مبلغاً معيناً، فيكون المصرف محيلاً، والعميل محالاً، والفرع محالاً عليه، وحكمها يختلف على نحوين:
الأول: أن يكون للعميل الراغب في التحويل رصيد في المصرف، وحيث إن الإيداع في المصارف ـ في الحقيقة ـ إقراض لها من المودع مضمونٌ عليها، فإن إصدار الصك بأخذ العميل مبلغاً معيناً هو وفاءٌ من المصرف المدين لعميله الدائن، وحيث أن المدين غير ملزم بالوفاء إلا في بلد الإيداع فإن قبول المصرف بوفاء دينه في مكان آخر ـ من خلال تحويله على فرعه فيه ـ هو تنازل عن حقه في الامتناع عن الوفاء فيه، فيجوز له أخذ عمولة مقابل ذلك التحويل المتضمن لذلك التنازل.
الثاني: أن لا يكون للعميل الطالب للتحويل رصيد في المصرف، فيكون إصدار صك التحويل مبتنياً على ما يلي:
أ ـ قد أقرض المصرفُ الأُم عميلَه ذلك المبلغَ المطلوب.
ب ـ أحاله ـ بعد الإقراض ـ على فرعـه في مكان آخـر ـ بيـروت مثـلاً ـ ليدفعه الفرع إليه.
ج ـ حيث إن المصرف الأم يريد أخذ عمولة على هذا التحويل، وحيث لا يجوز له ذلك لأنه (نفع) زائد على القرض، فإن للمصرف تصحيحَ أخذ هذه العمولة بأن يوكِّل المقترضَ بأخذ المال من الفرع بعنوان القرض، وحيث إن في توكيل العميل تسهيلاً لمهمته، فإن للبنك أن يطلب عمولة منه على هذا التوكيل لا على نفس الإقراض، وذلك رغم كون توكيل المقترض غير ضروري بعد كون الفرع وكيلاً عن المصرف الأم وقادراً على القيام بنفسه بإقراض المحال؛ نعم، يمكن أن يكون ذلك التوكيل ضرورياً في صورة ما لو فرض كون المحال عليه مصرفاً آخر قد أَودعَ فيه المصرفُ المقرض أمواله، لا فرعاً له، فإن تصحيح أخذ العمولة يتوقّف ـ أيضاً ـ على توكيل المصرف المصدر للصك للمصرف الدافع بإقراض المحال المبلغ المطلوب من أموال المصرف الأول المودعة عنده، فتكون العمولة مأخوذة على التوكيل لا على الإقـراض. وذلك مـن دون فرق ـ في الفرضين ـ بين ما لو كان الإقراض والتحويل بعملتين من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، لكنه حيث يكون التحويل بعملة أخرى من غير جنس العملة المقترضة فإنه يمكن تصحيح أخذ العمولة ـ إضافـة لما سبق ـ بأنها مقابل تنازل المصرف عن حقه في الاستيفاء بالعملة المقترضة وقبول وفاء المقترض لدينه بالعملة المغايرة لها جنساً، وذلك كأن يقرضه ألف دينار كويتي في الكويت على أن يقبض في بيروت ما يساوي قيمتها بالدولار الأمريكي، وهو حوالي ثلاثة آلاف دولار، وعلى أن يوفيها للمصرف المقرض بالدولار، فإنه يجوز للمصرف أخذ عوض عن قبوله استيفاء الدينار بالدولار.
الصورة الثانية: إحالة الدائن على المصرف
وهي: أن يحيل المدين دائنه على المصرف بصك ـ ونحوه ـ يطلب فيه قيام المصرف بتحويل مبلغ من المال لغريمه في بلد آخر، كبلد التاجر الذي استورد منه البضاعة، فيقوم المصرف بتحويل الدائن على فرعه في بلده ويدفع له فيه المبلغ المطلوب؛ وعند التأمل في هذه الصورة نجدها تنحل إلى حوالتين: الأولى: حوالة المدين دائنه على المصرف بحيث يصبح هو المدين. والثانية: حوالة المصرف دائنه (المحال) على فرعه في بلد الدائن ـ حسب الفرض ـ، وكلتا الحوالتين صحيحة.
وبناءً عليه، وعلى صعيد أخذ العمولة، فإنه إذا كان التحويل بطلب من العميل المدين يجوز للمصرف أن يأخذ عمولة عليه، وذلك عوضاً عن قيام المصرف المدين (المحال عليه الأول) بوفاء دينه في غير بلده (أي: في غير بلد المصرف المحال عليه الأول)، سواء كان للعميل المدين رصيد في المصرف أو لم يكن له رصيد فيه، بحيث كانت الحوالة منه على البريء (وهو المصرف)؛ إضافة إلى أنه ـ في الحوالة على البريء ـ يجوز له أخذ عوض عن قبول الحوالة عليه.
نعم، حيث يكون للعميل رصيد في المصرف، فأحال دائنه عليه لاستيفاء دينه منه في بلد المصرف ـ أي دون تحويل على الخارج ـ فليس للمصرف المحال عليه أخذ شيء على ذلك الوفاء.
وفيه مسائل:
مسألة 282: إذا تم عقد الحوالة مستكملاً لشروطه انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرأت ذمة المحيل منه، فإذا استحق وفاؤه وطالبه المحال وجب على المحال عليه أداؤه بالنحو الذي التزم به، ويجري عليه ـ حينئذ ـ جميع أحكام الوفاء التي سبق ذكرها في باب الدين، من حكم الإلزام بالوفاء إذا امتنع عنه مع قدرته عليه، وحكم المقاصة، وحكم التفليس والإعسار، وغير ذلك من الأحكام المناسبة. فإذا أدّى المحال عليه الدين بالنحو المطلوب برأت ذمته منه أيضاً، وكانت حاله مع المحيل ـ من هذه الجهة ـ على صور:
الأولى: أن يكون المحال عليه مديناً للمحيل، ويكون التحويل مبنياً على كونه أداءً في قبال ما عليه، ويكون ما أداه بمقدار الدين الذي عليه، فلا يرجع المحال عليه ـ في هذه الصورة ـ على المحيل بشيء.
الثانية: كالصورة الأولى، لكنَّ ما أداه المحال عليه أكثر مما عليه تارة وأنقص منه أخرى، فإن كان أكثر، وكان بذل الزائد مبنياً على أخذ البدل من المحيل، جاز له الرجوع على المحيل بالزائد، وإلا لم يرجع عليه به؛ وإن كان المؤدى أنقص من الدين جاز للمحيل مطالبة المحال عليه بما بقي له في ذمته.
الثالثة: كالصورة الأولى، لكنَّ ما أحال به عليه من غير الجنس، ولم تكن الحوالة مبنية على كون الأداء في مقابل الدين؛ ففي هذه الصورة يرجع المحال عليه على المحيل بما أداه عنه، كما أن المحيل يستحق على المحال عليه دينه الذي له في ذمته.
الرابعة: أن تكون الحوالة على البريء، فإن ابتنت الحوالة على المجانية لم يرجع المحال عليه بشيء على المحيل، وإن ابتنت على الرجوع على المحيل بالبدل جاز له الرجوع عليه، فإن رجع وكان الدين المحال به حالاًّ وجب على المحيل ضمانه ولو قبل أدائه، وإن كان مؤجلاً لم يكن للمحال عليه الرجوع على المحيل قبل حلول الأجل ولو كان قد أداه قبل ذلك.
مسألة 283: يجري في الحوالة من حُكْم رجوع المحال عليه ما سبق أَنْ قلناه في الضمان، وهو: «إنَّ ما يرجع بـه الضامـن ـ إذا كـان قـد أَدَّى من مالـه ـ هو مقدارُ ما أَدَّى»؛ وعلى هذا الأساس فإنه لو أبرأ المحالُ المحالَ عليه من جميع الدين، أو تبرع به عنه لم يكن له أن يرجع على المحيل بشيء، وإذا أبرأه من بعض الدين أو تبرع به عنه متبرع لم يكن له أن يرجع عليه ـ أيضاً ـ إلا بمقدار ما أدى؛ وإذا كان قد أدى بغير جنس الدين لم يكن له الرجوع إلا بجنس الدين؛ هذا في الإحالة على البريء، أما إذا كانت الإحالة على المدين، وتبرع متبرع عنه بجميع الدين أو ببعضه، أو أبرأه المحال، منه، فإنه ليس للمحيل أن يرجع بدينه عليه إذا ابتنت الحوالة على كون المحال به في قبال الدين الذي له على المحال عليه، وإلا جاز له الرجوع عليه بدينه لأنه ما يزال باقياً في ذمته، فيما لا يجوز للمحال عليه الرجوع بما أداه عن المحيل من الدين، لتبرع غير المحال عليه به عنه أو إبرائه منه.
مسألة 284: كما تبرأ ذمة المحال عليه بأدائه الدين المحال به عليه، فإنها تبرأ بأمرين آخرين هما:
1 ـ إبراء المحال ذمة المحال عليه من الدين.
2 ـ أداء المحيل للدين بعد إحالته على غيره، وتفصيل ذلك أنه إذا كانت الحوالة الأولى مبنية على المجانية، وكان المحال عليه مديناً للمحيل، وكان أداؤه بطلب من المحال عليه، جاز للمحيل أن يرجع عليه بما أداه عنه، إضافة إلى حقه في الرجوع عليه ثانية بدينه الذي له عليه؛ وإن كانت الحوالة غير مبتنية على المجانية، وكـان الأداء بطلب من المحـال عليـه، وكان المحـال عليـه ـ أيضاً ـ مدينـاً للمحيل، كان لكلٍ منهما أن يرجع على الآخر بما أداه عنه، حيث تكون النتيجة ـ عملياً ـ هي: رجوع أحدهما على الآخر بما رجع به الآخر عليه، وما ذلك إلا لأن طلب المحال عليه الأداء من المحيل لا يعد إقالة حتى تنفسخ به الحوالة، بل تتداخل الحوالتان بهذا النحو الذي ذكرناه؛ أما إذا لم يكن بطلب منه فليس للمحيل أن يرجع عليه إلا بدينه الذي له عليه، وكذا ليس له الرجوع عليه إذا لم يكن مديناً له، ما دام لا يستحق عليه شيئاً.
مسألة 285: إذا طالب المحالُ عليه المحيلَ بما أداه عنه، فأدعى المحيلُ أن له عليه ديناً بمقدار المحال به، وأن ما أداه عنه هو في قبال دينه الذي عليه، فأنكر المحال عليه، كان القول قول المحال عليه مع يمينه إذا لم يُقدِّم المحيل بيّنة تثبت كونه مديناً له.
مسألة 286: إذا اختلف الدائن والمدين في كون العقد الواقع بينهما حوالة أو وكالة، فمع عدم قيام البيّنة على واحدة منهما يقدم قول منكر الحوالة.
تفريع فيه مطلبان:
المطلب الأول: في أنواع أخرى من الحوالة
وذلك أننا قد قلنا في التمهيد لهذا الباب: «إن ثمة حوالة هي غير الحوالة المصطلحة تبتني على عدم اشتغال ذمة المحال عليه للمحال»، ولما كان لها أنواع متعددة فإننا نريد بيانها في هذا المطلب من هذا التفريع، وذلك على النحو التالي:
مسألة 287: قد شاع في زماننـا هذا قيـام المحـال عليـه ـ مجانـاً أو بعوض ـ بخدمات مالية للمحيل دون أن تبتني الحوالة بينهما على انشغال ذمة المحال عليه بالمحال به للمحال، وذلك بطرق مختلفة، ومن خلال أفراد أو مؤسسات مالية متخصصة؛ ومن أجل الإحاطة بها نذكرها في أنواع:
الأول: أن يحيل الدائن مدينه بدينه على وكيله أو أمين صندوقه أوْ وَدَعِي له، (الوَدَعـيُّ هـو: الشخـص ـ أو المؤسسة ـ الذي تستودعه مالك)، أو على بريء لا يستحق عليه شيئاً.
الثاني: حوالة من سيكون مديناً له، كالإحالة بثمن مبيع يريد شراءه، أو بمهر زوجة يريد التزوج منها، أو نحو ذلك مما لا يدخل في الحوالة المصطلحة لعدم كونه ديناً ثابتاً في الذمة حين الحوالة.
الثالث: حوالة غير المدين، كحوالة من يريد التبرع له بمال من الأشخاص أو الجهات على غيره من فرد أو مؤسسة.
الرابع: الحوالة المبتنية على بيع أو قرض، وهي: أن يدفع شخص إلى آخر ـ فرداً كان أو مؤسسة كالمصرف ـ مالاً ليأخذ بدله في بلد آخر؛ وسيأتي تفصيل أحكام هذا النوع وغيره في المسائل التالية.
مسألة 288: تصح الحوالة في النوع الأول والثاني وتنفذ ولو لم يرض بها المحال، إذ إن للمدين فيهما إلزام الدائن بأخذ دينه من المحال عليه إلا أن يكون مخالفاً لحقه في الاستيفاء نوعاً ومكاناً وزماناً، فيعتبر رضاه حينئذٍ؛ أما المحال عليه فيعتبر ـ أيضاً ـ رضاه بها ولو من جهة كونه ملزماً بها لشرط أو نذر وشبهه. وكذا تصح الحوالة في النوع الثالث إذا رضي بها المحال والمحال عليه.
أما النوع الرابع من الحوالة، وهي الحوالة المبتنية على بيع أو قرض، فتصحّ إذا كانت موافقة للعنوان الذي لوحظ فيها، وهي من هذه الجهة على صورتين:
الأولى: أن يكون المال المدفوع والمأخوذ بدلاً عنه من جنسين مختلفين، وذلك كأن يدفع له في الكويت ألف دينار كويتي على أن يأخذ بدله في لبنان ثلاثة آلاف دولار، فتصح هذه الحوالة بعنوان البيع دون إشكال، وكذا تصح قرضاً مع إشتراط الوفاء بغير الجنس إذا كانت قيمة الجنس الآخر مساوية لقيمة الدين، وإلا بطلت بعنوان القرض.
الثانية: أن يكونا متماثلين في الجنس، فإن تساويا في المقدار صحت المعاملة قرضاً بدون إشكال، وتصح بعنوان البيع مع مراعاة الأحكام الخاصة به من كونهما من النقدين أو من المكيل والموزون أو كونهما نقداً أو نسيئة أو غير ذلك مما قد يضر بالبيع من الأحكام الخاصة به. وإن اختلفا في المقدار فهنا حالتان:
أ ـ أن يكون المدفوع أقل من المأخوذ بدلاً منه، كأن يدفع له في بيروت ألف دولار ويأخذ بدله في دمشق ألفاً وخمسين دولاراً، فتبطل قرضاً وتصح بيعاً نقداً لأنه من المعدود وتبطل نسيئة على الأحوط لزوماً.
ب ـ أن يكون المدفوع أكثر من المأخوذ، أي عكس الحالة الأولى، فتصح قرضاً لأن الزيادة ـ حينئذ ـ تكون من الدائن (وهو الدافع) للمدين فلا تضر بالقرض، وتصح بيعاً بالتفصيل المتقدم في الحالة (أ).
المطلب الثاني: في الحوالات المصرفية
تقوم المؤسسات المالية ـ حكومية كانت أو أهليـة ـ بدور كبير وفاعل في خدمة عملائها، وأهم هذه الخدمات تحويل ما يحتاجونه من أموال من مكان إلى مكان بوسائل وطرق متعددة تضمن سرعة التبادل التجاري والأمان في انتقال أموالهم، وهو أمر نبيّن أحكامه على النحو التالي:
مسألة 289: يختلف تحويل المال عبر المصارف على صورتين:
الصورة الأولى: إحالة المصرف عملاءه
وذلك بأن يصدر المصرف (صكاً) لعميله على أحد فروعه في الداخل أو الخارج ليأخذ منه مبلغاً معيناً، فيكون المصرف محيلاً، والعميل محالاً، والفرع محالاً عليه، وحكمها يختلف على نحوين:
الأول: أن يكون للعميل الراغب في التحويل رصيد في المصرف، وحيث إن الإيداع في المصارف ـ في الحقيقة ـ إقراض لها من المودع مضمونٌ عليها، فإن إصدار الصك بأخذ العميل مبلغاً معيناً هو وفاءٌ من المصرف المدين لعميله الدائن، وحيث أن المدين غير ملزم بالوفاء إلا في بلد الإيداع فإن قبول المصرف بوفاء دينه في مكان آخر ـ من خلال تحويله على فرعه فيه ـ هو تنازل عن حقه في الامتناع عن الوفاء فيه، فيجوز له أخذ عمولة مقابل ذلك التحويل المتضمن لذلك التنازل.
الثاني: أن لا يكون للعميل الطالب للتحويل رصيد في المصرف، فيكون إصدار صك التحويل مبتنياً على ما يلي:
أ ـ قد أقرض المصرفُ الأُم عميلَه ذلك المبلغَ المطلوب.
ب ـ أحاله ـ بعد الإقراض ـ على فرعـه في مكان آخـر ـ بيـروت مثـلاً ـ ليدفعه الفرع إليه.
ج ـ حيث إن المصرف الأم يريد أخذ عمولة على هذا التحويل، وحيث لا يجوز له ذلك لأنه (نفع) زائد على القرض، فإن للمصرف تصحيحَ أخذ هذه العمولة بأن يوكِّل المقترضَ بأخذ المال من الفرع بعنوان القرض، وحيث إن في توكيل العميل تسهيلاً لمهمته، فإن للبنك أن يطلب عمولة منه على هذا التوكيل لا على نفس الإقراض، وذلك رغم كون توكيل المقترض غير ضروري بعد كون الفرع وكيلاً عن المصرف الأم وقادراً على القيام بنفسه بإقراض المحال؛ نعم، يمكن أن يكون ذلك التوكيل ضرورياً في صورة ما لو فرض كون المحال عليه مصرفاً آخر قد أَودعَ فيه المصرفُ المقرض أمواله، لا فرعاً له، فإن تصحيح أخذ العمولة يتوقّف ـ أيضاً ـ على توكيل المصرف المصدر للصك للمصرف الدافع بإقراض المحال المبلغ المطلوب من أموال المصرف الأول المودعة عنده، فتكون العمولة مأخوذة على التوكيل لا على الإقـراض. وذلك مـن دون فرق ـ في الفرضين ـ بين ما لو كان الإقراض والتحويل بعملتين من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، لكنه حيث يكون التحويل بعملة أخرى من غير جنس العملة المقترضة فإنه يمكن تصحيح أخذ العمولة ـ إضافـة لما سبق ـ بأنها مقابل تنازل المصرف عن حقه في الاستيفاء بالعملة المقترضة وقبول وفاء المقترض لدينه بالعملة المغايرة لها جنساً، وذلك كأن يقرضه ألف دينار كويتي في الكويت على أن يقبض في بيروت ما يساوي قيمتها بالدولار الأمريكي، وهو حوالي ثلاثة آلاف دولار، وعلى أن يوفيها للمصرف المقرض بالدولار، فإنه يجوز للمصرف أخذ عوض عن قبوله استيفاء الدينار بالدولار.
الصورة الثانية: إحالة الدائن على المصرف
وهي: أن يحيل المدين دائنه على المصرف بصك ـ ونحوه ـ يطلب فيه قيام المصرف بتحويل مبلغ من المال لغريمه في بلد آخر، كبلد التاجر الذي استورد منه البضاعة، فيقوم المصرف بتحويل الدائن على فرعه في بلده ويدفع له فيه المبلغ المطلوب؛ وعند التأمل في هذه الصورة نجدها تنحل إلى حوالتين: الأولى: حوالة المدين دائنه على المصرف بحيث يصبح هو المدين. والثانية: حوالة المصرف دائنه (المحال) على فرعه في بلد الدائن ـ حسب الفرض ـ، وكلتا الحوالتين صحيحة.
وبناءً عليه، وعلى صعيد أخذ العمولة، فإنه إذا كان التحويل بطلب من العميل المدين يجوز للمصرف أن يأخذ عمولة عليه، وذلك عوضاً عن قيام المصرف المدين (المحال عليه الأول) بوفاء دينه في غير بلده (أي: في غير بلد المصرف المحال عليه الأول)، سواء كان للعميل المدين رصيد في المصرف أو لم يكن له رصيد فيه، بحيث كانت الحوالة منه على البريء (وهو المصرف)؛ إضافة إلى أنه ـ في الحوالة على البريء ـ يجوز له أخذ عوض عن قبول الحوالة عليه.
نعم، حيث يكون للعميل رصيد في المصرف، فأحال دائنه عليه لاستيفاء دينه منه في بلد المصرف ـ أي دون تحويل على الخارج ـ فليس للمصرف المحال عليه أخذ شيء على ذلك الوفاء.
ص
205
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية