المبحث الثالث: في أحكام العدة

(العِدَّة) في الأصل اللغوي مأخوذة من (عَدَّ) بمعنى حَسَبَ وأحْصى، و(العِدَّة) مقدارُ ما يُعدُّ ومَبْلغُه؛ وفي مصطلح الفقهاء: (مدةٌ حَدَّدها الشرع، تقضيها المرأة بعد مفارقة زوجها بطلاق أو موت أو نحوهما، بحيث لا يجوز لها التزوج من غيره إلا بعد مضيها). وموارد وجوبها هي:
1 ـ مفارقة الزوجة بالطلاق.
2 ـ مفارقة الزوجة بالفسخ بالعيب أو غيـره أو بالانفسـاخ القهري بالإرتداد ونحوه مما سبق ذكره في مباحث عقد الزواج، فلا نعيده هنا.
3 ـ وفاة الزوج.
4 ـ الجماع بالشبهة، سواءً مع العقد عليها أو بدونه.
5 ـ إنقضاء المدة أو هبتها في الزواج المؤقت، وهو ما قد عرضنا له تفصيلياً في مباحث الزواج المؤقت، فلا نعيده هنا.
وحيث إننا قد عرضنا لحكم بعض هذه الأمور في بعض المباحث السابقة فإن ما بقي منها نعرض له هنا في مطالب ثلاثة على النحو التالي:
المطلب الأول: في عدة الطلاق
يختلف نوع وأحكام العدة باختلاف الحالة التي تكون عليها المطلقة، وذلك ما بين الحامل وغير الحامل، وغير الحامل يختلف الأمر فيها بين من ترى الحيض بالنحو المعتاد وبين من لا تراه كذلك، أو أنها لا تراه، وتفصيل ذلك يقع في ثلاثة فرع:
الفرع الأول: في عدة الحائل
مسألة 931: إنما تعتد المطلقة الحائل إذا كانت مدخولاً بها ولم تكن صغيرة ولا يائسة، فإن كانت صغيرة لم تبلغ سن التكليف بعدُ لم يكن عليها عدة ولو كانت مدخولاً بها شبهة أو عصياناً؛ وكذا اليائس التي أتمت خمسين عاماً قمرية من عمرها ولو كانت قرشية، فإنها لو طلقت لم يكن لها عدة ولو كانت مدخولاً بها، هذا، فضلاً عن غير المدخول بها، فإنها لا عدة لها ولو كانت قد تعدت سن الصغر وكانت ما تزال دون سن اليأس. فيجوز لهؤلاء الثلاث التزوج من غير الزوج بعد طلاقهن منه مباشرة دون انتظار مضي فترة عليه.
مسألة 932: يتحقّق الدخول الموجب للعدة بإيلاج مقدار الحشفة من العضو ـ على الأقل ـ في فرج المرأة ولو من دون إنزال، بل إنّ الاعتداد مع الدخول بالدبر مبني على الاحتياط، فلا عبرة بما لو دخل مَنِيُّه إلى الفرج من دون إيلاج، ولا بالملاعبة بالتقبيل والتفخيذ ونحوهما، فضلاً عن مجرد الخلوة بالزوجة بدون ذلك جميعاً. ولا فرق في الدخول بين ما يكون منه في حال القصد والالتفات أو بدونهما، كالذي يحدث قهراً عنه أو في حال الغفلة أو النوم أو نحو ذلك؛ وكذا لا فرق بين الدخول المحلَّل للزوج والمحرَّم عليه، كأن واقعها في حال حيضها، أو أثناء الإحرام أو الصوم.
مسألة 933: لا يخلو حال المـرأة غير الحامل ـ من حيث الحيـض وعدمـه ـ من حالات ثلاث تختلف مدة العدة باختلافها، وهي:
الأولى: أن تكون ممن تحيض، ويكون بين الحيض والآخر فترة تقل عن ثلاثة أشهر، سواء كانت ممن لها عادة منتظمة تأتيها في كل شهر مرة على النحو المتعارف، أو كانت غير منتظمة العادة لكنها لا تقطعها ثلاثة أشهر متواصلة، بل ترى الحيض خلالها مرة أو مرتين أو أكثر؛ فإذا طُلِّقت لزمها الاعتداد ثلاثة قروء. و(القُروء) جمعٌ مفردُها: (قُرْء)، وهو من الألفاظ التي لها معنيان متضادان: الحيض، والطهر من الحيض؛ والمراد به هنا: الطهر من الحيض؛ ويبدأ احتساب الأطهار الثلاثة (أي: القروء) من الطهر الذي طلقت فيه إذا كانت له بقية حتى أتى الحيض الذي بعده ولو بمقدار لحظة، فيكون طهرها الأول هو طهر طلاقها مهما بلغ من الوقت، ساعة أو ثلاثة أسابيع، فإذا حاضت بعده ونقت من الدم وطهرت كان ذلك طهرَها الثاني الذي لن يقل عن عشرة أيام، فإذا حاضت بعده ثم نقت من الدم فطهرت كان ذلك طهرَهـا الثالث الذي لن يقل ـ أيضاً ـ عن عشرة أيام، وهو آخر أطهارها وآخر عدتها، فإذا حاضت فقد خرجت من عدتها بمجرد رؤية الدم من حيث هو إيذان بانتهاء طهرها الثالث في تلك اللحظة.
وبناءً على ذلك فإن فترة العدة تقصر وتطول تبعاً لطول فترة الطهر بين كل حيض وآخر وقصرها، وهي تتراوح ـ في الغالـب ـ ما بين شهرين وثلاثة أشهر للمرأة التي ترى الحيض في كل شهر مرة، على ما هو حال معظم النساء، في حين تعتبر أقصر فترة للعدة هي: ستة وعشرون يوماً ولحظتين، وذلك بأن يكون طهرها الأول الذي وقع فيه طلاقها، لحظة، ثم تحيض ثلاثة أيام فتطهر ويستمر طهرها الثاني عشرة أيام، ثم تحيض ثلاثة أيام فتطهر ويستمر طهرها الثالث عشرة أيام، ثم تحيض فتخرج من عدتها في أول لحظة من بداية حيضها، فهذه ستة وعشرون يوماً ولحظتان مقدار أقل عادة متصورة؛ أما أقصى مدة للعدة المقدرة بالأقراء فهي: حوالي ثمانية أشهر ونيِّف.
هذا، ولا فرق في الحيض الحادث عليها بين الحيض الطبيعي وبين ما يكون منه بعلاج فيحدث في غير وقته المعتاد، فيُرتَّب عليه الأثر في كلتا الحالتين ما دام حيضاً شرعاً.
الثانية: أن تكون ممن تحيض، ولكن يطول طهرها ما بين الحيض والآخر ثلاثة أشهر فصاعداً؛ وعدتها مضي ثلاثة أشهر قمرية من حين طلاقها، فإذا انقضت الأشهر الثلاث خرجت من عدتها، وذلك دون أن يضرها تحيضها في الأثناء. وكيفية احتسابها هي أنها إذا طلقت في أول الشهر حسبت ثلاثة أشهر هلالية، بحيث إذا هل الشهر الرابع خرجت من عدتها، وإذا طلقت أثناء الشهر اعتدت بقية شهرها مع شهرين هلاليين مع إكمال ما نقص من شهرها الأول من هذا الرابع، ولكن بمقدار ثلاثين يوماً على الأحوط وجوباً.
هذا إذا جرت على نسق واحد من حيث تحيضها كل ثلاثة أشهر فصاعداً، أما إذا اختلف حالها، بحيث كان يأتيها هكذا في بعض السنة، كما في أيام البرد مثلاً، فيما يأتيها الحيض قبل ثلاثة أشهر في أيام الصيف، فحكمها أن تبدأ عدتها ـ بعد طلاقها ـ وترى، فإن استمر طهرها إلى ثلاثة أشهر كان ذلك عدتها، وإن أتاها الحيض قبل ذلك اعتدت بالأطهـار ـ على الأحـوط وجوبـاً ـ حتى ولو طال الأمر بها، ما دام سيأتيها أكثر من مرة على هذا النحو، وهكذا. نعم إذا كانت ممن ترى الحيض لدون ثلاثة أشهر، فلما طلقها زوجها رأت الدم مرة ثم ارتفع على خلاف عادتها، فالمشهور هو الاعتداد بالأقراء، وهو الأحوط، ولكن الإعتداد بالأشهُر لا يخلو من وجه.
الثالثة: أن تكون ممن لا تحيض وهي من سن من تحيض، لمرض أو رضاع أو غيرهما؛ وعدتها ثلاثة أشهر بالتفصيل المتقدم في الحالة الثانية.
الفرع الثاني: في عدة الحامل
مسألة 934: عدة المطلقةِ الحاملِ من زوجها هي مدةُ حملها، فتنتهي عدتها بوضع الحمل ولو بعد الطلاق بساعة، سواء وضعته لوقته أو لغير وقته، تام الخلقة أو ناقصها، حيًّا كان حين وضعته أو ميّتاً. نعم، لو كانت تحمل توأماً لم تنقض عدتها إلا بوضع الجميع.
مسألة 935: يعتبر في اعتداد المطلقة الحامل بوضع الحمل أن يكون حملها من زوجها الذي طلقها، سواءً كان حملها منه قبل أن يعقد عليهـا ـ بمثل وطىء الشبهة أو الزنا ـ ثم عقد عليها أثناء حملها ثم طلقها، أو كان حملها منه شرعياً بعد زواجه منها؛ أما إذا حملت من غير زوجها بوطىء شبهة أو زناً، ثم طلقها زوجها أثناء حملها، فإن عدتها من زوجها لا تكون بوضع الحمل، بل بالأطهار أو الشهور كغير الحامل. نعم إذا كان حملها من غيره قد حدث شبهة، فإن عليها الاعتداد من وطىء الشبهة هذا ـ كما سيأتي ـ بوضع الحمل، إضافة إلى لزوم اعتدادها بالأطهار أو الشهور من طلاق زوجها لها، ويكون هذا المورد ـ حينئذ ـ من موارد اجتماع عدتين على المرأة الواحدة مما سيأتي بيانه لاحقاً. (أنظر المسألة: 945).
مسألة 936: إذا ادّعت المطلَّقة الحامل أنها وضعت فانقضت عدّتها وأنكر الزوج، أو انعكس الأمر بأن ادّعى الوضع وأنكرت هي، أو ادّعت الحمل وأنكر، أو ادّعت الحمل والوضع معاً وأنكرهما، يقدم قولها بيمينها في جميع ذلك من حيث بقاء العدّة وانقضائها لا من حيث سائر آثار الحمل، ويشترط في تقديم قولها أن لا تكون متهمة في دعواها وإلاّ لم تقبل إلاّ بالبيّنة.
مسألة 937: إذا اتفق الزوجان على إيقاع الطلاق ووضع الحمل واختلفا في المتقدم والمتأخر منهما، فقال الزوج مثلاً: «وضعتِ بعد الطلاق فانقضت عدتك»، وقالت الزوجة: «وضعتُ قبل الطلاق فأنا بعدُ في العدّة»؛ أو انعكس الأمر بينهما، فقال الزوج: «وضعتِ قبل الطلاق فأنت بعدُ في العدّة»، رغبة منه في الرجوع إليها، فادّعت الزوجة خلافه؛ فالظاهر أنّه يقدّم قولها بيمينها في بقاء العدّة وانقضائها ما لم تكن متهمة، دون فرق في ذلك بين ما لو لم يتفقا على زمان أحدهما وبين ما لو اتفقا عليه.
الفرع الثالث: في أحكام عدة الطلاق
مسألة 938: يبدأ احتساب عدة الطلاق من حين وقوعه لا من حين تبلغها خبر الطلاق، فلو مضت مدة على الطلاق دون أن تكون قد علمت به احتسبت عدتها من حين وقوعه، فإن بقي منها شيء تريثت حتى يمضي، وإن كانت قد انقضت تمام عدتها صارت خلية منه وجاز لها التزوج من غيره، وذلك من دون فرق بين ما لو كان الزوج غائباً عنها أو حاضراً عندها.
هذا إذا علمت تاريخ وقوع الطلاق، أما إذا علمت بالطلاق وجهلت تاريخه، فإن جزمت أنها قد كانت مطلقة منذ شهر ـ مثـلاً ـ مع احتمال صدور الطلاق قبله، جاز لها احتساب عدتها منذ الوقت المتيقن، وإلا لزمها الإعتداد منذ بلغها الخبر، وهو الأحوط استحباباً على كل حال.
مسألة 939: إذا طلق زوجته المدخول بها طلاقاً رجعياً، وصادف أن راجعها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، لم يجر عليها حكم غير المدخول بها من حيث عدم احتياجها إلى العدة، بل يبقى حكمها الأول بلحاظ كونها مدخولاً بها هو الجاري، وعليها استئناف عدة جديدة منذ الطلاق الثاني دون احتساب ما كان قد مضى من عدتها عند الطلاق الأول، وكذا حكم ما لو كانت في العدة البائنة، والتي من مواردها: مفارقته لها بعد الدخول بها بهبة المدة أو انتهائها إذا عقد عليها أثناء عدتها ثم فارقها قبل الدخول؛ غير أنه في هذا الفرض (أي: كونها في العدة البائنة) يكفيها إكمال ما كان قد انقضى من عدتها من الطلاق الأول دون حاجة لاستئناف عدة جديدة بعد مفارقتها ثانية.
مسألة 940: إذا اختلف الزوجان في انقضاء العدة وعدمه قدم قول الزوجة بيمينها، سواء ادعت الإنقضاء أو ادعت عدمه، وسواء كانت عدتها بالأطهار أو بالشهور، نعم إذا كانت متهمة في دعواها، كما لو ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيضات فانقضت عدتها، لم يقبل قولها إلا بالبينة.
المطلب الثاني: في عدة وطىء الشبهة
مسألة 941: كما تثبت العدة في الطلاق الذي تنفك به عرى عقد الزواج وميثاقه، فإن العدة قد تثبت بعد المواقعة الحادثة بين غير الزوجين اشتباهاً وخطأً، أما المواقعة بالزنى فلا تجب لها العدة بالمعنى المصطلح، نعم لا يجوز للزاني وغيره ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يتزوج بالزانية الخلية وغير الحامل إلا بعد أن تستبرىء بحيضة، فيما لا استبراء على الزانية الحامل ولا على الزانية ذات البعل، بل يجوز للأولى أن تتزوج من الزاني ومن غيره دون استبراء، كما يجوز للثانية أن يقاربها زوجها دون استبرائها من الزاني. (أنظر المسألتين: 609، 619).
مسألة 942: المعيار في كون المواقعة عن شبهة هو: اعتقاد الرجل أن المرأة زوجة له، سواء كان الاشتباه بالعقد عليها وانكشاف بطلان التزوج بها لكونها محرَّمة عليه بالرضاع أو النسب أو المصاهرة، أو لاعتقاده أنها خلية فتبينت ذات بعل، أو لغير ذلك؛ أو كان الاشتباه بدون العقد، كأن ظنها زوجته لظلمة ونحوها؛ فيجب عليها الإعتداد منه سواءً كانت جاهلة بالحال ومشتبهة مثله ومعتقدة زوجيتها له أو كانت عالمة بالحال، إذ المهم أن يكون الاشتباه من طرف الزوج ولو وَحْدَهُ؛ أما إذا كان الاشتباه من طرف المرأة وحدها مع علم الرجل والتفاته إلى أنها ليست زوجته، فإنها إذا طاوعته معتقدة أنه زوجها لزمتها العدة ـ أيضاً ـ على الأحوط وجوباً.
مسألة 943: عدة وطىء الشبهة كعدة الطلاق المتقدمة، فتجب بالأطهار أو بالشهور أو بوضع الحمل، إن لم تكن الزوجة صغيرة ولا يائسة، وإلا لم تجب عليها العدة، وجميع ذلك بالتفصيل الذي تقدم، سواءً في ذلك ذات البعل والخلية؛ فإذا حدث وطىء الشبهة على ذات البعل وجب على زوجها الامتناع عن مقاربتها بالجماع حتى تمضي عدتها، أما الاستمتاع بها بغير الجماع فهو جائز، والظاهر أنه لا تسقط نفقتها في أيام العدة حتى لو قلنا بحرمة جميع الاستمتاعات عليه.
وأما غير ذات البعل فإنه يجوز للواطىء أن يعقد عليها أثناء عدتها، بخلاف غيره فإن عليه انتظار مضي عدتها ليتزوج منها.
مسألة 944: مبدأ عدة وطىء الشبهة مع عدم العقد على المرأة المُشْتَبَهِ بزوجيتها هو حين الفراغ من وطئها لا حين تَبيُّنِ الحالِ، فلو صادف أنه واقعها وغاب عنها شهراً ثم تبين اشتباهه، إحتسبَ العدة منذ واقَعَها لا حين تَبَيُّنِ الحال؛ وكذا الحكم فيما لو كان الاشتباه مع العقد عليها واعتقاد صحة زواجه منها، فإذا واقعها وغاب عنها مدة ثم تَبيَّنَ له الحال، كانت عدتها منذ واقعها.
مسألة 945: قد تجب على الموطوءة شبهة عدة أخرى، من طلاق أو وفاة أو غيرهما، أثناء اعتدادها من وطىء الشبهة، وذلك كأن تكون في واحدة من حالات أربع:
أ ـ أن تكون في عدة طلاق أو وفاة، فيطؤها رجل آخر غير زوجها شبهة أثناء عدتها تلك.
ب ـ أن تكون قد وُطِئَت شبهة، ثم طلقها زوجها أو توفي عنها أثناء عدتها ـ أيضاً ـ.
ج ـ أن تكون قد وطئت شبهة من رجل، ثم وطئت كذلك من رجل آخر أثناء عدتها.
د ـ أن تكون في عدة بائنة فيطؤها زوجها اشتباهاً أثناء عدتها.
وحكم هذه الحالات يختلف على صورتين:
الأولى: ما لو كان الواطىء شبهة هو نفس الزوج، وذلك كما في الحالة (د) المفترضة، وحكمها هو: أن تهدم ما مضى من عدة الطلاق وتستأنف عدة لوطىء الشبهة تشترك معه فيها عدة الطلاق، فإذا انقضت عدتها هذه صارت خلية. وهذا هو الذي يعبر عنه في لغة الفقه بــ (تداخل العدتين).
الثانية: ما لو كان الواطىء شبهة هو غير من كانت في عدته، زوجاً كان الأول أو غير زوج، وذلك كما في الحالات المفترضة (أ) و(بــ) و(جــ)، وحكم هذه الحالات جميعها هو عدم تداخل العدتين على الأقرب، ولكن تطبيق هذا الحكم يختلف باختلاف نوع العدة المطلوبة على نحوين:
الأول: أن تكون إحدى عدتيها عدةَ حمل، سواءً من وطىء الشبهة أو من غيره، فيجب عليها تقديم عدة الحمل على كل حال، فإذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها ممن له الحمل، ثم تنظر في أمر العدة الأخرى:
فإن كـان الحمـل هـو السابق عليها لزمهـا ـ بعـد انقضـاء عـدة الحمل بالوضع ـ الشروع بالعدة الأخرى بالنحو المناسب لها، أي: بالأطهار أو الشهور. وإن كانت العدة الأخرى هي السابقة على عدة الحمل، كأنْ كانت تعتد بالأطهار أو الشهور، ومضى منها بعضها، فعرضت أثناءها عدة الحمل، كفاها أن تستكمل ما بقي لها منها بعد وضعها حملها.
الثاني: ما إذا لم يكن فيهما عدة حمل، بل كانتا ـ كلتاهما ـ بالأطهار أو الشهور، وحكمها هو أن تتم العدة التي هي فيها، ثم تستأنف عدة أخرى للثاني.
المطلب الثالث: في عدة الوفاة
مسألة 946: إذا مات أحد الزوجين انفسخ عقد النكاح ولَغَتْ آثاره، سوى أنه يجوز لأحدهما النظر واللمس لما كان يجوز له لمسه والنظر إليه حال الحياة. وعلى الزوجة ـ إذا مات زوجها ـ أن تعتد منه عدة الوفاة التي هي من أفراد العدة البائنة، سواءً الصغيرة والكبيرة، والعاقلة والمجنونة، والمسلمة والكافرة، والمدخول بها وغير المدخول بها، والزوجة الدائمة أو المتمتع بها، كما لا فرق في الزوج بين الصغير والكبير والعاقل وغيره.
وعدة المرأة غير الحامل من وفاة زوجها هي: أربعة أشهر وعشرة أيام بحسب الهلال، أما الحامل فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل ومن هذه المدة، أي: يُنتظر بالحامل حتى تضع حملها، فإن كان قد مضى ما بين موته ووضع الحمل أربعة أشهر وعشرة فصاعداً، فقد انقضت عدتها، وإن كان قد مضى أقل من ذلك فوضعت، لزمها إتمام عدتها بعد الوضع حتى يمضي على وفاته أربعة أشهر وعشرة، فإذا انقضى أبعدُهما صارت خلية.
مسألة 947: إذا مات الزوج في عدة طلاق زوجته، فإن كانت العدة من طلاق رجعي بطلت ولزمها استئناف عدةٍ لوفاته بالنحو المذكور آنفاً، وإن كانت العدة من طلاق بائن اقتصرت على إتمام عدة الطلاق دون أن تزيد عليها.
مسألة 948: مبدأ العدة لوفاة الزوج الحاضر هي من حين وقوع الموت، وأما إذا كان غائباً عن بلد الزوجة أو بحكم الغائب، كأن كان حاضراً في بلدها ولكن لم يبلغها خبر موته لمرض أو حبس أو نحوهما من الموانع، فبداية عدتها من حين بلوغها خبر وفاته، غير أن في عموم حكم زوجة الغائب هذا للزوجة الصغيرة أو المجنونة إشكالاً، وإن كان لا يبعد الإكتفاء فيهما باحتسابها من حين الوفاة.
هذا، ولا بد في الإخبار بالوفاة الموجب للاعتداد من حينه أن يكون مرتكزاً على ما يعتبر حجة شرعاً، كأن يكون بينة عادلة، أو شياعاً مفيداً للإطمئنان، أو غيرهما، فلو أخبرها شخص بوفاة زوجها، ولم تثق بصحة خبره، لم يجب عليها الاعتداد، ولو اعتدت ـ رغـم عـدم تصديقـه ـ ثم ظهرت صحة خبره كفاها ذلك عن الاعتداد مرة ثانية، وبانت منه.
مسألة 949: كما يجب على الزوجة أن تعتد عند وفاة زوجها كذلك يجب عليها الحداد ما دامت في العدّة، والمقصود به ترك ما يعدّ زينة لها سواء في البدن أم في اللباس، فتترك الكحل والطيب والخضاب والحمرة ونحوها، كما تجتنب لبس المصوغات الذهبيّة والفضيّة وغيرها من أنواع الحلي، وكذا اللباس الأحمر والأصفر ونحوهما من الألوان التي تعد زينة عند العرف، بل وربّما يكون اللباس الأسود كذلك في نظر العرف، إما لكيفيّة تفصيله أو لبعض الخصوصيات المشتمل عليها، مثل كونه مخططاً، وبالجملة عليها أن تترك في فترة العدّة كل ما يعدّ زينة للمرأة بحسب العرف الإجتماعي الذي تعيشه، ومن المعلوم اختلافه بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والتقاليد؛ وأما ما لا يعد زينة لها، مثل تنظيف البدن واللباس وتقليم الأظفار والاستحمام وتمشيط الشعر والإفتراش بالفراش الفاخر والسكنى في المساكن المزينة وتزيين أولادها، فلا بأس به.
هذا، وليس من الحداد بقاء الزوجة في البيت الذي كانت تسكنه عند وفاة زوجها، بل يجوز لها تغييره والسكن في غيره، كما وأنه لا يحرم عليها الخروج من بيتها أثناء العدة، بل يجوز لها الخروج لضروراتها، كأداء حق أو فعل طاعة أو قضاء حاجة، وإن كره لها الخروج لغير ضرورة، بل والمبيت خارج بيتها.
مسألة 950: لا فرق في وجوب الحداد على الزوجة بين المسلمة والكافرة، ولا بين الدائمة والمتمتع بها، أما الصغيرة والمجنونة فلا يجب على وليهما إلزامهما بمظاهر الحداد. وكذا لا فرق في الزوج الذي يجب الحداد لموته بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون.
مسألة 951: إذا تركت المرأة الحداد أثناء العدة ـ أو أخلت ببعض ما يجب فيها ـ عصياناً أو جهلاً أو نسياناً، لم يضر ذلك بعدة الوفاة واحتسبت لها، فإذا انقضت عدتها صارت خلية منه رغم تركها الحداد عليه، وإن كانت آثمة مع العصيان.
(العِدَّة) في الأصل اللغوي مأخوذة من (عَدَّ) بمعنى حَسَبَ وأحْصى، و(العِدَّة) مقدارُ ما يُعدُّ ومَبْلغُه؛ وفي مصطلح الفقهاء: (مدةٌ حَدَّدها الشرع، تقضيها المرأة بعد مفارقة زوجها بطلاق أو موت أو نحوهما، بحيث لا يجوز لها التزوج من غيره إلا بعد مضيها). وموارد وجوبها هي:
1 ـ مفارقة الزوجة بالطلاق.
2 ـ مفارقة الزوجة بالفسخ بالعيب أو غيـره أو بالانفسـاخ القهري بالإرتداد ونحوه مما سبق ذكره في مباحث عقد الزواج، فلا نعيده هنا.
3 ـ وفاة الزوج.
4 ـ الجماع بالشبهة، سواءً مع العقد عليها أو بدونه.
5 ـ إنقضاء المدة أو هبتها في الزواج المؤقت، وهو ما قد عرضنا له تفصيلياً في مباحث الزواج المؤقت، فلا نعيده هنا.
وحيث إننا قد عرضنا لحكم بعض هذه الأمور في بعض المباحث السابقة فإن ما بقي منها نعرض له هنا في مطالب ثلاثة على النحو التالي:
المطلب الأول: في عدة الطلاق
يختلف نوع وأحكام العدة باختلاف الحالة التي تكون عليها المطلقة، وذلك ما بين الحامل وغير الحامل، وغير الحامل يختلف الأمر فيها بين من ترى الحيض بالنحو المعتاد وبين من لا تراه كذلك، أو أنها لا تراه، وتفصيل ذلك يقع في ثلاثة فرع:
الفرع الأول: في عدة الحائل
مسألة 931: إنما تعتد المطلقة الحائل إذا كانت مدخولاً بها ولم تكن صغيرة ولا يائسة، فإن كانت صغيرة لم تبلغ سن التكليف بعدُ لم يكن عليها عدة ولو كانت مدخولاً بها شبهة أو عصياناً؛ وكذا اليائس التي أتمت خمسين عاماً قمرية من عمرها ولو كانت قرشية، فإنها لو طلقت لم يكن لها عدة ولو كانت مدخولاً بها، هذا، فضلاً عن غير المدخول بها، فإنها لا عدة لها ولو كانت قد تعدت سن الصغر وكانت ما تزال دون سن اليأس. فيجوز لهؤلاء الثلاث التزوج من غير الزوج بعد طلاقهن منه مباشرة دون انتظار مضي فترة عليه.
مسألة 932: يتحقّق الدخول الموجب للعدة بإيلاج مقدار الحشفة من العضو ـ على الأقل ـ في فرج المرأة ولو من دون إنزال، بل إنّ الاعتداد مع الدخول بالدبر مبني على الاحتياط، فلا عبرة بما لو دخل مَنِيُّه إلى الفرج من دون إيلاج، ولا بالملاعبة بالتقبيل والتفخيذ ونحوهما، فضلاً عن مجرد الخلوة بالزوجة بدون ذلك جميعاً. ولا فرق في الدخول بين ما يكون منه في حال القصد والالتفات أو بدونهما، كالذي يحدث قهراً عنه أو في حال الغفلة أو النوم أو نحو ذلك؛ وكذا لا فرق بين الدخول المحلَّل للزوج والمحرَّم عليه، كأن واقعها في حال حيضها، أو أثناء الإحرام أو الصوم.
مسألة 933: لا يخلو حال المـرأة غير الحامل ـ من حيث الحيـض وعدمـه ـ من حالات ثلاث تختلف مدة العدة باختلافها، وهي:
الأولى: أن تكون ممن تحيض، ويكون بين الحيض والآخر فترة تقل عن ثلاثة أشهر، سواء كانت ممن لها عادة منتظمة تأتيها في كل شهر مرة على النحو المتعارف، أو كانت غير منتظمة العادة لكنها لا تقطعها ثلاثة أشهر متواصلة، بل ترى الحيض خلالها مرة أو مرتين أو أكثر؛ فإذا طُلِّقت لزمها الاعتداد ثلاثة قروء. و(القُروء) جمعٌ مفردُها: (قُرْء)، وهو من الألفاظ التي لها معنيان متضادان: الحيض، والطهر من الحيض؛ والمراد به هنا: الطهر من الحيض؛ ويبدأ احتساب الأطهار الثلاثة (أي: القروء) من الطهر الذي طلقت فيه إذا كانت له بقية حتى أتى الحيض الذي بعده ولو بمقدار لحظة، فيكون طهرها الأول هو طهر طلاقها مهما بلغ من الوقت، ساعة أو ثلاثة أسابيع، فإذا حاضت بعده ونقت من الدم وطهرت كان ذلك طهرَها الثاني الذي لن يقل عن عشرة أيام، فإذا حاضت بعده ثم نقت من الدم فطهرت كان ذلك طهرَهـا الثالث الذي لن يقل ـ أيضاً ـ عن عشرة أيام، وهو آخر أطهارها وآخر عدتها، فإذا حاضت فقد خرجت من عدتها بمجرد رؤية الدم من حيث هو إيذان بانتهاء طهرها الثالث في تلك اللحظة.
وبناءً على ذلك فإن فترة العدة تقصر وتطول تبعاً لطول فترة الطهر بين كل حيض وآخر وقصرها، وهي تتراوح ـ في الغالـب ـ ما بين شهرين وثلاثة أشهر للمرأة التي ترى الحيض في كل شهر مرة، على ما هو حال معظم النساء، في حين تعتبر أقصر فترة للعدة هي: ستة وعشرون يوماً ولحظتين، وذلك بأن يكون طهرها الأول الذي وقع فيه طلاقها، لحظة، ثم تحيض ثلاثة أيام فتطهر ويستمر طهرها الثاني عشرة أيام، ثم تحيض ثلاثة أيام فتطهر ويستمر طهرها الثالث عشرة أيام، ثم تحيض فتخرج من عدتها في أول لحظة من بداية حيضها، فهذه ستة وعشرون يوماً ولحظتان مقدار أقل عادة متصورة؛ أما أقصى مدة للعدة المقدرة بالأقراء فهي: حوالي ثمانية أشهر ونيِّف.
هذا، ولا فرق في الحيض الحادث عليها بين الحيض الطبيعي وبين ما يكون منه بعلاج فيحدث في غير وقته المعتاد، فيُرتَّب عليه الأثر في كلتا الحالتين ما دام حيضاً شرعاً.
الثانية: أن تكون ممن تحيض، ولكن يطول طهرها ما بين الحيض والآخر ثلاثة أشهر فصاعداً؛ وعدتها مضي ثلاثة أشهر قمرية من حين طلاقها، فإذا انقضت الأشهر الثلاث خرجت من عدتها، وذلك دون أن يضرها تحيضها في الأثناء. وكيفية احتسابها هي أنها إذا طلقت في أول الشهر حسبت ثلاثة أشهر هلالية، بحيث إذا هل الشهر الرابع خرجت من عدتها، وإذا طلقت أثناء الشهر اعتدت بقية شهرها مع شهرين هلاليين مع إكمال ما نقص من شهرها الأول من هذا الرابع، ولكن بمقدار ثلاثين يوماً على الأحوط وجوباً.
هذا إذا جرت على نسق واحد من حيث تحيضها كل ثلاثة أشهر فصاعداً، أما إذا اختلف حالها، بحيث كان يأتيها هكذا في بعض السنة، كما في أيام البرد مثلاً، فيما يأتيها الحيض قبل ثلاثة أشهر في أيام الصيف، فحكمها أن تبدأ عدتها ـ بعد طلاقها ـ وترى، فإن استمر طهرها إلى ثلاثة أشهر كان ذلك عدتها، وإن أتاها الحيض قبل ذلك اعتدت بالأطهـار ـ على الأحـوط وجوبـاً ـ حتى ولو طال الأمر بها، ما دام سيأتيها أكثر من مرة على هذا النحو، وهكذا. نعم إذا كانت ممن ترى الحيض لدون ثلاثة أشهر، فلما طلقها زوجها رأت الدم مرة ثم ارتفع على خلاف عادتها، فالمشهور هو الاعتداد بالأقراء، وهو الأحوط، ولكن الإعتداد بالأشهُر لا يخلو من وجه.
الثالثة: أن تكون ممن لا تحيض وهي من سن من تحيض، لمرض أو رضاع أو غيرهما؛ وعدتها ثلاثة أشهر بالتفصيل المتقدم في الحالة الثانية.
الفرع الثاني: في عدة الحامل
مسألة 934: عدة المطلقةِ الحاملِ من زوجها هي مدةُ حملها، فتنتهي عدتها بوضع الحمل ولو بعد الطلاق بساعة، سواء وضعته لوقته أو لغير وقته، تام الخلقة أو ناقصها، حيًّا كان حين وضعته أو ميّتاً. نعم، لو كانت تحمل توأماً لم تنقض عدتها إلا بوضع الجميع.
مسألة 935: يعتبر في اعتداد المطلقة الحامل بوضع الحمل أن يكون حملها من زوجها الذي طلقها، سواءً كان حملها منه قبل أن يعقد عليهـا ـ بمثل وطىء الشبهة أو الزنا ـ ثم عقد عليها أثناء حملها ثم طلقها، أو كان حملها منه شرعياً بعد زواجه منها؛ أما إذا حملت من غير زوجها بوطىء شبهة أو زناً، ثم طلقها زوجها أثناء حملها، فإن عدتها من زوجها لا تكون بوضع الحمل، بل بالأطهار أو الشهور كغير الحامل. نعم إذا كان حملها من غيره قد حدث شبهة، فإن عليها الاعتداد من وطىء الشبهة هذا ـ كما سيأتي ـ بوضع الحمل، إضافة إلى لزوم اعتدادها بالأطهار أو الشهور من طلاق زوجها لها، ويكون هذا المورد ـ حينئذ ـ من موارد اجتماع عدتين على المرأة الواحدة مما سيأتي بيانه لاحقاً. (أنظر المسألة: 945).
مسألة 936: إذا ادّعت المطلَّقة الحامل أنها وضعت فانقضت عدّتها وأنكر الزوج، أو انعكس الأمر بأن ادّعى الوضع وأنكرت هي، أو ادّعت الحمل وأنكر، أو ادّعت الحمل والوضع معاً وأنكرهما، يقدم قولها بيمينها في جميع ذلك من حيث بقاء العدّة وانقضائها لا من حيث سائر آثار الحمل، ويشترط في تقديم قولها أن لا تكون متهمة في دعواها وإلاّ لم تقبل إلاّ بالبيّنة.
مسألة 937: إذا اتفق الزوجان على إيقاع الطلاق ووضع الحمل واختلفا في المتقدم والمتأخر منهما، فقال الزوج مثلاً: «وضعتِ بعد الطلاق فانقضت عدتك»، وقالت الزوجة: «وضعتُ قبل الطلاق فأنا بعدُ في العدّة»؛ أو انعكس الأمر بينهما، فقال الزوج: «وضعتِ قبل الطلاق فأنت بعدُ في العدّة»، رغبة منه في الرجوع إليها، فادّعت الزوجة خلافه؛ فالظاهر أنّه يقدّم قولها بيمينها في بقاء العدّة وانقضائها ما لم تكن متهمة، دون فرق في ذلك بين ما لو لم يتفقا على زمان أحدهما وبين ما لو اتفقا عليه.
الفرع الثالث: في أحكام عدة الطلاق
مسألة 938: يبدأ احتساب عدة الطلاق من حين وقوعه لا من حين تبلغها خبر الطلاق، فلو مضت مدة على الطلاق دون أن تكون قد علمت به احتسبت عدتها من حين وقوعه، فإن بقي منها شيء تريثت حتى يمضي، وإن كانت قد انقضت تمام عدتها صارت خلية منه وجاز لها التزوج من غيره، وذلك من دون فرق بين ما لو كان الزوج غائباً عنها أو حاضراً عندها.
هذا إذا علمت تاريخ وقوع الطلاق، أما إذا علمت بالطلاق وجهلت تاريخه، فإن جزمت أنها قد كانت مطلقة منذ شهر ـ مثـلاً ـ مع احتمال صدور الطلاق قبله، جاز لها احتساب عدتها منذ الوقت المتيقن، وإلا لزمها الإعتداد منذ بلغها الخبر، وهو الأحوط استحباباً على كل حال.
مسألة 939: إذا طلق زوجته المدخول بها طلاقاً رجعياً، وصادف أن راجعها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، لم يجر عليها حكم غير المدخول بها من حيث عدم احتياجها إلى العدة، بل يبقى حكمها الأول بلحاظ كونها مدخولاً بها هو الجاري، وعليها استئناف عدة جديدة منذ الطلاق الثاني دون احتساب ما كان قد مضى من عدتها عند الطلاق الأول، وكذا حكم ما لو كانت في العدة البائنة، والتي من مواردها: مفارقته لها بعد الدخول بها بهبة المدة أو انتهائها إذا عقد عليها أثناء عدتها ثم فارقها قبل الدخول؛ غير أنه في هذا الفرض (أي: كونها في العدة البائنة) يكفيها إكمال ما كان قد انقضى من عدتها من الطلاق الأول دون حاجة لاستئناف عدة جديدة بعد مفارقتها ثانية.
مسألة 940: إذا اختلف الزوجان في انقضاء العدة وعدمه قدم قول الزوجة بيمينها، سواء ادعت الإنقضاء أو ادعت عدمه، وسواء كانت عدتها بالأطهار أو بالشهور، نعم إذا كانت متهمة في دعواها، كما لو ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيضات فانقضت عدتها، لم يقبل قولها إلا بالبينة.
المطلب الثاني: في عدة وطىء الشبهة
مسألة 941: كما تثبت العدة في الطلاق الذي تنفك به عرى عقد الزواج وميثاقه، فإن العدة قد تثبت بعد المواقعة الحادثة بين غير الزوجين اشتباهاً وخطأً، أما المواقعة بالزنى فلا تجب لها العدة بالمعنى المصطلح، نعم لا يجوز للزاني وغيره ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يتزوج بالزانية الخلية وغير الحامل إلا بعد أن تستبرىء بحيضة، فيما لا استبراء على الزانية الحامل ولا على الزانية ذات البعل، بل يجوز للأولى أن تتزوج من الزاني ومن غيره دون استبراء، كما يجوز للثانية أن يقاربها زوجها دون استبرائها من الزاني. (أنظر المسألتين: 609، 619).
مسألة 942: المعيار في كون المواقعة عن شبهة هو: اعتقاد الرجل أن المرأة زوجة له، سواء كان الاشتباه بالعقد عليها وانكشاف بطلان التزوج بها لكونها محرَّمة عليه بالرضاع أو النسب أو المصاهرة، أو لاعتقاده أنها خلية فتبينت ذات بعل، أو لغير ذلك؛ أو كان الاشتباه بدون العقد، كأن ظنها زوجته لظلمة ونحوها؛ فيجب عليها الإعتداد منه سواءً كانت جاهلة بالحال ومشتبهة مثله ومعتقدة زوجيتها له أو كانت عالمة بالحال، إذ المهم أن يكون الاشتباه من طرف الزوج ولو وَحْدَهُ؛ أما إذا كان الاشتباه من طرف المرأة وحدها مع علم الرجل والتفاته إلى أنها ليست زوجته، فإنها إذا طاوعته معتقدة أنه زوجها لزمتها العدة ـ أيضاً ـ على الأحوط وجوباً.
مسألة 943: عدة وطىء الشبهة كعدة الطلاق المتقدمة، فتجب بالأطهار أو بالشهور أو بوضع الحمل، إن لم تكن الزوجة صغيرة ولا يائسة، وإلا لم تجب عليها العدة، وجميع ذلك بالتفصيل الذي تقدم، سواءً في ذلك ذات البعل والخلية؛ فإذا حدث وطىء الشبهة على ذات البعل وجب على زوجها الامتناع عن مقاربتها بالجماع حتى تمضي عدتها، أما الاستمتاع بها بغير الجماع فهو جائز، والظاهر أنه لا تسقط نفقتها في أيام العدة حتى لو قلنا بحرمة جميع الاستمتاعات عليه.
وأما غير ذات البعل فإنه يجوز للواطىء أن يعقد عليها أثناء عدتها، بخلاف غيره فإن عليه انتظار مضي عدتها ليتزوج منها.
مسألة 944: مبدأ عدة وطىء الشبهة مع عدم العقد على المرأة المُشْتَبَهِ بزوجيتها هو حين الفراغ من وطئها لا حين تَبيُّنِ الحالِ، فلو صادف أنه واقعها وغاب عنها شهراً ثم تبين اشتباهه، إحتسبَ العدة منذ واقَعَها لا حين تَبَيُّنِ الحال؛ وكذا الحكم فيما لو كان الاشتباه مع العقد عليها واعتقاد صحة زواجه منها، فإذا واقعها وغاب عنها مدة ثم تَبيَّنَ له الحال، كانت عدتها منذ واقعها.
مسألة 945: قد تجب على الموطوءة شبهة عدة أخرى، من طلاق أو وفاة أو غيرهما، أثناء اعتدادها من وطىء الشبهة، وذلك كأن تكون في واحدة من حالات أربع:
أ ـ أن تكون في عدة طلاق أو وفاة، فيطؤها رجل آخر غير زوجها شبهة أثناء عدتها تلك.
ب ـ أن تكون قد وُطِئَت شبهة، ثم طلقها زوجها أو توفي عنها أثناء عدتها ـ أيضاً ـ.
ج ـ أن تكون قد وطئت شبهة من رجل، ثم وطئت كذلك من رجل آخر أثناء عدتها.
د ـ أن تكون في عدة بائنة فيطؤها زوجها اشتباهاً أثناء عدتها.
وحكم هذه الحالات يختلف على صورتين:
الأولى: ما لو كان الواطىء شبهة هو نفس الزوج، وذلك كما في الحالة (د) المفترضة، وحكمها هو: أن تهدم ما مضى من عدة الطلاق وتستأنف عدة لوطىء الشبهة تشترك معه فيها عدة الطلاق، فإذا انقضت عدتها هذه صارت خلية. وهذا هو الذي يعبر عنه في لغة الفقه بــ (تداخل العدتين).
الثانية: ما لو كان الواطىء شبهة هو غير من كانت في عدته، زوجاً كان الأول أو غير زوج، وذلك كما في الحالات المفترضة (أ) و(بــ) و(جــ)، وحكم هذه الحالات جميعها هو عدم تداخل العدتين على الأقرب، ولكن تطبيق هذا الحكم يختلف باختلاف نوع العدة المطلوبة على نحوين:
الأول: أن تكون إحدى عدتيها عدةَ حمل، سواءً من وطىء الشبهة أو من غيره، فيجب عليها تقديم عدة الحمل على كل حال، فإذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها ممن له الحمل، ثم تنظر في أمر العدة الأخرى:
فإن كـان الحمـل هـو السابق عليها لزمهـا ـ بعـد انقضـاء عـدة الحمل بالوضع ـ الشروع بالعدة الأخرى بالنحو المناسب لها، أي: بالأطهار أو الشهور. وإن كانت العدة الأخرى هي السابقة على عدة الحمل، كأنْ كانت تعتد بالأطهار أو الشهور، ومضى منها بعضها، فعرضت أثناءها عدة الحمل، كفاها أن تستكمل ما بقي لها منها بعد وضعها حملها.
الثاني: ما إذا لم يكن فيهما عدة حمل، بل كانتا ـ كلتاهما ـ بالأطهار أو الشهور، وحكمها هو أن تتم العدة التي هي فيها، ثم تستأنف عدة أخرى للثاني.
المطلب الثالث: في عدة الوفاة
مسألة 946: إذا مات أحد الزوجين انفسخ عقد النكاح ولَغَتْ آثاره، سوى أنه يجوز لأحدهما النظر واللمس لما كان يجوز له لمسه والنظر إليه حال الحياة. وعلى الزوجة ـ إذا مات زوجها ـ أن تعتد منه عدة الوفاة التي هي من أفراد العدة البائنة، سواءً الصغيرة والكبيرة، والعاقلة والمجنونة، والمسلمة والكافرة، والمدخول بها وغير المدخول بها، والزوجة الدائمة أو المتمتع بها، كما لا فرق في الزوج بين الصغير والكبير والعاقل وغيره.
وعدة المرأة غير الحامل من وفاة زوجها هي: أربعة أشهر وعشرة أيام بحسب الهلال، أما الحامل فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل ومن هذه المدة، أي: يُنتظر بالحامل حتى تضع حملها، فإن كان قد مضى ما بين موته ووضع الحمل أربعة أشهر وعشرة فصاعداً، فقد انقضت عدتها، وإن كان قد مضى أقل من ذلك فوضعت، لزمها إتمام عدتها بعد الوضع حتى يمضي على وفاته أربعة أشهر وعشرة، فإذا انقضى أبعدُهما صارت خلية.
مسألة 947: إذا مات الزوج في عدة طلاق زوجته، فإن كانت العدة من طلاق رجعي بطلت ولزمها استئناف عدةٍ لوفاته بالنحو المذكور آنفاً، وإن كانت العدة من طلاق بائن اقتصرت على إتمام عدة الطلاق دون أن تزيد عليها.
مسألة 948: مبدأ العدة لوفاة الزوج الحاضر هي من حين وقوع الموت، وأما إذا كان غائباً عن بلد الزوجة أو بحكم الغائب، كأن كان حاضراً في بلدها ولكن لم يبلغها خبر موته لمرض أو حبس أو نحوهما من الموانع، فبداية عدتها من حين بلوغها خبر وفاته، غير أن في عموم حكم زوجة الغائب هذا للزوجة الصغيرة أو المجنونة إشكالاً، وإن كان لا يبعد الإكتفاء فيهما باحتسابها من حين الوفاة.
هذا، ولا بد في الإخبار بالوفاة الموجب للاعتداد من حينه أن يكون مرتكزاً على ما يعتبر حجة شرعاً، كأن يكون بينة عادلة، أو شياعاً مفيداً للإطمئنان، أو غيرهما، فلو أخبرها شخص بوفاة زوجها، ولم تثق بصحة خبره، لم يجب عليها الاعتداد، ولو اعتدت ـ رغـم عـدم تصديقـه ـ ثم ظهرت صحة خبره كفاها ذلك عن الاعتداد مرة ثانية، وبانت منه.
مسألة 949: كما يجب على الزوجة أن تعتد عند وفاة زوجها كذلك يجب عليها الحداد ما دامت في العدّة، والمقصود به ترك ما يعدّ زينة لها سواء في البدن أم في اللباس، فتترك الكحل والطيب والخضاب والحمرة ونحوها، كما تجتنب لبس المصوغات الذهبيّة والفضيّة وغيرها من أنواع الحلي، وكذا اللباس الأحمر والأصفر ونحوهما من الألوان التي تعد زينة عند العرف، بل وربّما يكون اللباس الأسود كذلك في نظر العرف، إما لكيفيّة تفصيله أو لبعض الخصوصيات المشتمل عليها، مثل كونه مخططاً، وبالجملة عليها أن تترك في فترة العدّة كل ما يعدّ زينة للمرأة بحسب العرف الإجتماعي الذي تعيشه، ومن المعلوم اختلافه بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والتقاليد؛ وأما ما لا يعد زينة لها، مثل تنظيف البدن واللباس وتقليم الأظفار والاستحمام وتمشيط الشعر والإفتراش بالفراش الفاخر والسكنى في المساكن المزينة وتزيين أولادها، فلا بأس به.
هذا، وليس من الحداد بقاء الزوجة في البيت الذي كانت تسكنه عند وفاة زوجها، بل يجوز لها تغييره والسكن في غيره، كما وأنه لا يحرم عليها الخروج من بيتها أثناء العدة، بل يجوز لها الخروج لضروراتها، كأداء حق أو فعل طاعة أو قضاء حاجة، وإن كره لها الخروج لغير ضرورة، بل والمبيت خارج بيتها.
مسألة 950: لا فرق في وجوب الحداد على الزوجة بين المسلمة والكافرة، ولا بين الدائمة والمتمتع بها، أما الصغيرة والمجنونة فلا يجب على وليهما إلزامهما بمظاهر الحداد. وكذا لا فرق في الزوج الذي يجب الحداد لموته بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون.
مسألة 951: إذا تركت المرأة الحداد أثناء العدة ـ أو أخلت ببعض ما يجب فيها ـ عصياناً أو جهلاً أو نسياناً، لم يضر ذلك بعدة الوفاة واحتسبت لها، فإذا انقضت عدتها صارت خلية منه رغم تركها الحداد عليه، وإن كانت آثمة مع العصيان.
ص
615
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية