وتفصيله يقع في مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: في تعريف اليمين وصيغته وأقسامه
وفيه مسائل:
مسألة 471: اليمين: (صيغة تتضمن القسم بالله تعالى تأكيداً على صدق الإخبار بوقوع شيء أو عدم وقوعه، أو على العزم على ترك شيء أو فعله من قبل الغير أو النفس). والهدف منه هو: إشهاد الله تعالى شأنه على صدق المتحدث فيما يخبر عنه، أو إشهاده تعالى على صحة عزم الحالف على فعل شيء أو تركه، أو جعله تعالى وسيطاً وشفيعاً في حث المطلوب منه على فعل شيء أو تركه. وكما يقال له «اليمين» فإنه يقال له: «القسم» و«الحلف» و«الإيلاء». هذا، وسوف تتبين عناصر التعريف فيما يلي من مسائل.
مسألة 472: لا تنعقد اليمين إلا بصيغة يتوفر فيها عنصران:
الأول: أن تتضمن الصيغة كلمةَ (القسم) أو ما يرادفها من الكلمات، أو ما يقوم مقامها من الأحرف المجعولة لذلك، وذلك بنحو يفيد إنشاءه من قبل الحالف، سواءً في ذلك الإسم أو الفعل، وسواءً الفعل الماضي أو المضارع، إضافة إلى الحرف؛ فيصح أن تقول: «أُقْسمُ» أو: «أقْسَمْت» أو: «قسماً»، ومثل: (حلفت) أو (آليت) وما يشتق منهما، ومثل: «بالله» ونحوها من حروف القسم وأسمائه، وهي: التاء والواو ـ إضافة إلى الباء ـ من الحروف، ومثل: «أيْمُ الله» و«أيْمُنُ الله» من الأسماء.
الثاني: أن يكون المحلوف به هو الله تعالى دون غيره من المقدسات وأهل المقامات العظيمة من الإنس والملائكة. فيصح القسم وينعقد بكل إسم من أسماء الله تعالى، كالله والإله والرب ونحوها، وكذا بكل صفة من صفاته الخاصة مثل: القيوم وفالق الحب وبارىء النسمة، أو المشتركة التي تنصرف إليه تعالى: مثل الخالق والرحمن والرحيم ونحوها، بل ويصح بما لا ينصرف إليه تعالى من الصفات إذا قصده بها، كالسميع والبصير ونحوهما؛ وكذا ينعقد بمثل قوله: «لعمرو الله» أو «بحق الله» إذا كان القصد منهما ذات الله تعالى. فيما لا ينعقد الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالقرآن الكريم أو الكعبة الشريفة، أو الحلف بنبي أو وصي أو ملك مقرَّب، نعم ينبغي ترك الحلف بها مع قصد عدم الوفاء، تنزيهاً لمقام المقدس عن الإمتهان؛ وكذا لا ينعقد بالحلف بما لَهُ حرمتُه عند الحالف، كالحلف بولده الوحيد أو بشرفه أو بغير ذلك مما هو متداول على ألسنة الناس. وبناءً عليه، فإنه لا تنعقد اليمين بواحد من ذينك العنصرين دون الآخر، فكما لا تنعقد بلفظ أقسم دون إضافة إسم الله تعالى إليه واقترانه به، فإنها لا تنعقد ـ أيضاً ـ بلفظ إسم الله تعالى مجرداً عن ما يدل على القسم به تعالى.
كذلك فإن اليمين كما تنعقد باللغة العربية بالنحو الذي ذكرناه فإنها تنعقد ـ أيضاً ـ بغير العربية من اللغات شرط توفر العنصرين المذكورين بما يناسب قواعد اللغة المحلوف بها.
مسألة 473: لا يعتبر من اليمين ما لو كان حلفه بصيغة البراءة من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو من دينه أو من الأئمة عليهم السلام أو غير ذلك مما يجب الإعتقاد به ولا يجوز التبرؤ منه من العقائد والمقدسات، وذلك كأن يقول: «أبرأ من الله تعالى إن فعلت كذا» أو: «إن تركت كذا»، فإن قال ذلك لم ينعقد يميناً، بل هو قول مُحرَّمٌ يأثم قائله، وعليه ـ استحباباً ـ كفارةٌ إطعام عشرة مساكين إن حنث بيمين البراءة من الله تعالى ورسوله، دون ما لو كان بالبراءة من الأئمة عليه السلام فحنث به. وكما يأثم بيمين (العقـد) بالبـراءة، فإنـه يأثـم ـ أيضـاً ـ بالحلف بالبراءة على صدقه في الإخبار بوقوع أمر أو عدم وقوعه، دون فرق بين ما لو كان صادقاً في خبره أو كاذباً، وهي التي يقال لها يمين (التحقّق). (أنظر في المراد بــ «يمين العقد» و«يمين التحقّق» المسألة: 475).
مسألة 474: لا بد في انعقاد اليمين بما ذكرناه من كون الالتزام بالوفاء منجَّزاً ومطلقاً، فلا تنعقد اليمين إذا علقها على شيء آخر، كعودة زيد من السفر أو رضاه به أو إذا شفي ولده، بل لا يصح تعليق اليمين على مشيئة الله تعالى بنحو يكون التزامه بما أقسم عليه دائراً في وجوده وعدمه مدار تحقّق الشرط وعدم تحقّقه، نعم إذا علق الوفاء بيمينه على مشيئة الله تعالى من باب التبرك، وعلى أساس ربط أعماله به تعالى وإحالة كل شيء إليه مع توفر قصد جدي للوفاء بيمينه، انعقدت يمينه ولزمه الوفاء بها.
مسألة 475: تنقسم اليمين المشروعة إلى قسمين:
الأول: يمين التحقّق، وهي: (اليمين التي تقع لتأكيد الإخبار بوقوع شيء أو نفيه في الماضي أو الحاضر، أو لتأكيد حدوثه أو عدم حدوثه في المستقبل).
واليمين الصادقة مكروهة، إذ يحسن بالمؤمن أن لا يجعل الله تعالى عرضة لأيمانه ومضغة في لسانه، إلا ما يكون منها في مقام الموعظة كأسلوب بلاغي يراد به زيادة التأكيد عند ذكر الحقائق الدينية مجاراة للقرآن الكريم وأحاديث المعصومين عليهم السلام في ذلك، وإلا ما يكون منها لغرض راجح لا يتأدى إلا بالحلف، كدفع التهمة عن نفسه أو عن غيره من المؤمنين، أو لدفع مظلمة عن نفسه أو عن غيره كذلك، أو لتحصيل حق لا يتهاون العقلاء بمثله في الأهمية والخطر، أو لنحو ذلك من الأغراض الراجحة في الدين والدنيا.
أما اليمين الكاذبة فهي محرمة، بل هي من كبائر الذنوب، وتسمى (اليمين الغموس) أو: الفاجرة إذا كانت في مقام فصل الدعوى؛ ويجوز منهـا ـ بل قد يجب ـ ما كان لدفع الظلم عن نفسه أو غيره من المؤمنين إذا توقف عليه الدفع، وكان الظلم على درجة يهتم العقلاء بدفعه عن أنفسهم وعن غيرهم، فلا يشمل مثل ظلمه بمال يسير أو بلطمة خفيفة أو خدشة طفيفة. ورغم أن اليمين الكاذبة محرمة فإنه لا كفارة عليها.
وهذا القسم من اليمين (أي: يمين التحقّق) هو الذي يُطلب من المدّعى عليه في المنازعات عند عدم البيّنة لنفي حق المدعي، أو يطلب من المدعي لإثبات حقه عند امتناع المدّعى عليه من الحلف على نفيه؛ وهو أمر موكول إلى مباحث القضاء.
الثاني: يمين العَقْد، وهي: (ما تقع لتأكيد عزم الحالف على إلزام نفسه بفعل شيء أو تركه)، ولعله من أجل ذلك سميت (عقداً) من قولهم: «عقد عزمه على كذا» بمعنى: القصد المؤكد والوثيق؛ وهذا القسم هو محل البحث وعليه مدار مسائله، من وجوب الوفاء به وحرمة الحنث به ووجوب الكفارة على مخالفته وغير ذلك من الأحكام التي سيأتي تفصيلها والتي يشترك فيها مع النذر والعهد.
وإنما قلنا في تعريف هذا القسم: «... على إلزام نفسه.. إلخ» لإخراج ما يسمى بـ (يمين المناشدة)، وهي التي تقع لتأكيد عزم الحالف على إلزام غيره بفعل شيء أو تركه، كأن تقول عند دعوة الغير إلى طعامك: «والله لتأكلن من طعامي»، وذلك بهدف حثه على إجابة دعوتك وإظهار إصرارك عليه؛ فهي وإن كانت من أفراد يمين العقد ومصاديقها لكن لا يجب على الغير الالتزام بها، ولا يأثم الحالف بها، ولا تلزمه الكفارة إذا لم يستجب له المحلوف عليه، بل هو من عبارات المجاملة التي لا بأس باستعمالها في الآداب واللياقات الاجتماعية. ومنه ما لو حلف الولي على القيام بأمر يتعلق بالمولَّى عليه في أمور لا ولاية له عليه فيها، كأن حلف على تزويج إبنه البالغ الرشيد، أو نحو ذلك من الأمور، فإن اليمين لا تنعقد، نعم يصح منه الحلف في مثل هذه الحالة قبل أهليته بالبلوغ والرشد إذا كان في ذلك مصلحة له، فإذا بلغ رشيداً ولم يكن قد زوَّجه انحلت يمينه، ولم يكن عليه ـ ولا على ولده ـ إثم ولا كفارة إذا خالفاه.
المطلب الثاني: في تعريف النذر وصيغته وأقسامه
وفيه مسائل:
مسألة 476: (النَذْرُ) لغة: الوعد بخير أو شر، مع الشرط وبدونه. وأصله يدل على التخويف، ومنه (الإنذار)، أي: إخبار فيه تخويف؛ و(النذير) هو: المخبر بالخبر المخيف.
والنذر في الفقه هو: (صيغة يلتزم فيها الناذر بترك شيء أو فعله، لله تعالى)، فلا ينعقد بالنية المجردة عن اللفظ؛ كما أنه لا يشترط في الصيغة لفظ خاص، بل تصح بكل ما يفيد جعل فعلٍ أو تركٍ على ذمته لله تعالى إذا توفر فيها أمران:
الأول: جعل العمل على النفس لا على الغير، فلو جعله على غيره بمثل قوله: «لله على ولدي زيد أن يزور البيت الحرام إذا شفي من مرضه» كان لغواً لا يُلزِمُ الناذرَ ولا المنذورَ عنه بشيء، إلا أن يكون على من له الولاية عليه وبالنحو الذي تقدم في اليمين. (أنظر آخر فقرة «الثاني» من المسألة السابقة).
الثاني: أن يكون التزامه لله تعالى، فلو خلت الصيغة منه فاقتصر على قوله: «نذر علي أن أفعل كذا) كان لغواً لا يُلزمه بشيء؛ وكذا لا يجب الوفاء بما لو نذر لغير الله تعالى من الأنبياء والأوصياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، كما لو قال: «لك عليّ يا رسول الله أن أصلي ركعتين شكراً لله تعالى إذا تركت التدخين»، أو نحو ذلك.
فالصيغة المطلوبة في انعقاد النذر هي التي تشتمل على ذينك الأمرين، ويكفي فيها أن يقول: «لله عليّ صلاة ركعتين إن وصلت سالماً»، باللغة العربية أو بغيرها ولو لمن يحسن العربية، وباللهجة الفصحى أو العامية من العربية، وبأية طريقة رَكَّبَ بها الصيغة. بل يتحقّق النذر بما لو زاد على تلك الصيغة كلمة (نذر) ومشتقاتها، كأن يقول: «نذرت لله تعالى... إلخ»، أو: «نذر لله عليّ...»، أو ما أشبه ذلك.
مسألة 477: لا يشترط في الصيغة ذكر لفظ الجلالة بخاصة، بل يصح بكل ما دل عليه من الأسماء والصفات الخاصة به، أو المشتركة إذا قصد بها الله تعالى.
مسألة 478: الأصل في النذر أن يكون الوفاء بالمنذور معلقاً ومشروطاً بحدوث أمر معين، وذلـك علـى خـلاف اليميـن، لكنـه يصـح ـ أيضاً ـ إذا كان منجزاً ومطلقاً، ويسمى (نذر التبرع)، كأن يقول: «لله علي أن أصوم يوم الخميس» دون تعليقه على شيء، فإنه ينعقد ويجب الوفاء به، وحينئذٍ فإنه يفيد فائدة اليمين ويغني عنها، ويكون الفرق بينهما أن الحالف في اليمين يشهد الله تعالى على التزامه دون أن يقصد بنفس حلفه التوجه إلى الله تعالى وإن كان المحلوف عليه طاعة وعبادة، فيما يرتكز الالتزام من الناذر على التوجه بنفس التزامه ونذره إلى الله تعالى سواء كان المنذور عبادة أو غيرها، وبعبارة مختصرة: (نفس الحلف ليس طاعة فيما لا يكون النذر بذاته إلا طاعة).
مسألة 479: ينقسم النذر المعلـق ـ من حيث طبيعة الشرط الذي علق عليه ـ إلى قسمين:
الأول: نذر بِرٍ: وهو ما كان الهدف منه حث النفس ـ أو الغيـر ـ وبعثها إلى أعمال الخير والبر ولو من خلال ما يكون شكراً لله تعالى على ما وفق إليه من أعمال أو أفاض من نعم، فإن في نفس الشكر على ذلك ما يزيد النفس انبعاثاً إلى الخير؛ ولذا صح أن يكون بهذا اللحاظ على نحوين:
1 ـ نذر شكر لله تعالى على إيجاد الشرط، سواءً لنفسه أو لغيره، كأن يعلق نذر الصيام على شفائه أو شفاء ولده، أو على توفيقه لزيارة الإمام الحسين عليه السلام أو بناء بيته أو أداء فريضة الحج، أو غير ذلك من أمور الدين والدنيا من مصلحة حلت أو مفسدة اندفعت.
2 ـ نذر بعث لغيره من أجل فعل الخير، كأن يقول لولده: «إن حفظت القرآن الكريم فلله عليّ أن أبذل لك نفقة حجك»، ونحو ذلك مما يكون من قبيل الجائزة لفاعل الشرط على قيامه به.
أما مورد نذر البر بنَحوَيْه فهو ما إذا كان الشرط أمراً وجودياً أو عدمياً مرغوباً فيه للناذر، سواءً كان مِنْ فعله أو فعل غيره، ويعتبر أن يكون مما يَحسُن به تمنيه ويسوغ له طلبه من الله تعالى، إما لكونه طاعة لله تعالى، كفعل واجب أو مستحب أو ترك حرام أو مكروه، وإما لكونه انقياداً له تعالى بفعل ما يحتمل محبوبيته له وترك ما يحتمل مبغوضيته عنده، أما المباح المحض كالمشي والنوم ونحو ذلك فإن الظاهر فيه ـ أيضاً ـ جواز تعليق النذر عليه. وهنا لا بد من إلفات النظر إلى وجود فرق بين اشتراط النذر أو العهد وتعليقهما على المباح، وبين ما لو كان متعلق النذر أو العهد هو المباح، فالأول، وهو المذكور آنفاً، جائز، مثل أن يقول: «إن شربت الماء فللَّه عليّ أن أتصدق» والثاني غير سائغ، وهو مثل أن يقول: «إن شفيت من مرضي فللَّه عليّ أن أشرب الماء»، وهو الذي سيأتي بيانه في فقرة (الأول) من المسألة: 487.
فإن كان الشرط مما لا يحسن تمنيه، كما لو علق نذر الشكر على فعل الحرام أو المكروه أو ما يحتمل مبغوضيته، أو علقه على ترك الواجب أو المستحب أو ما يحتمل محبوبيته، أو علقه على ما فيه ضرر وأذى للإنسان أو غير الإنسان من الشرور والكوارث، لم ينعقد النذر، بل يأثم الناذر في بعض موارده، كمثل نذر الشكر على المعصية وعلى وقوع الأذى على المسلم.
الثاني: نذر الزجر، وهو ما يراد به ردع النفس عن فعل ما لا يحسن تمنيه، وذلك تشويقاً لها للطاعة وتزهيداً لها بالمعصية. ويكون إما: على ترك الواجب أو المستحب أو ما يحتمل أنه محبوب لله تعالى من كريم الأعمال، وإما: على فعل محرم أو مكروه أو ما يحتمل مبغوضيته من منافيات المروءة؛ وذلك كأن يقول: «لله عليّ أن أتصدق بألف دينار إن تركت الصلاة» قاصداً بذلك زجر نفسه عن ترك الصلاة، وهكذا سائر الموارد التي يجمعها كون الشرط من الأعمال الاختيارية للناذر. ولكن ينبغي الالتفات إلى أن هذه الموارد كما هي صالحة لأن تكون نذر بر زجراً للنفس عما لا يحبه الله تعالى فإنها صالحة ـ أيضاً ـ لأن تكون نذر شكر على المعصية، والمائز بينهما ـ حينئذ ـ هو القصد، فإذا قصد الناذر بها الشكر على المعصية أثم ولم ينعقد النذر.
مسألة 480: إذا علَّق النذر على أمر راجح ثم عرض عليه ما جعله مرجوحاً انحل النذر المعلق عليه.
مسألة 481: إذا تم النذر بالصيغة التي ذكرناها، وكان مستكملاً لسائر الشروط المعتبرة فيه مما سنذكره لاحقاً، انعقد ولزم الناذر الوفاء به وحرمت مخالفته ووجبت الكفارة على المخالفة، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث خاص لاحقاً.
المطلب الثالث: في تعريف العهد وصيغته وأقسامه
وفيه مسائل:
مسألة 482: العهد: (صيغة يعاهد فيها المؤمن ربه على الالتزام بفعل شيء أو تركه)؛ وهو أشبه باليمين في كونه لإشهاد الله تعالى على الالتزام بالعمل دون أن يكون بذاته طاعة لله تعالى، وإن اختلفا في كون الالتزام في العهد مرتكزاً ومُبرَزاً بلفظ عاهدت وما أشبهه، فيما الالتزام في اليمين مرتكز على القسم بالله تعالى، حتى كأن العهد نوع من الترقي في تشديد الالتزام من كون المؤمن معتمداً في اليمين على مجرد ذكر الإسم الأعظم إلى كونه في العهد ينشىء عقداً مع الله تعالى ليشهد على الالتزام ويحاسب عليه، فهو أوثق في الإرتباط وأعلى في الالتزام. أما ما يختلف به عن النذر فهو أن النذر بنفسه طاعة لله تعالى ولو لم يكن المنذور طاعة، فيما العهد بنفسه ليس طاعة حتى لو كان المعاهَد عليه طاعة، وهو نفس الفرق الذي سبق ذكره بين اليمين والنذر. (أنظر المسألة: 478).
مسألة 483: لا ينعقد العهد بمجرد النية، بل لا بد فيه من اللفظ، ويكفي فيه كل ما يدل على التعاهد مع الله تعالى شأنه، مثل أن يقول: «عاهدت الله على أن أفعل كذا» أو: «علي عهد الله...»، أو: «عاهدتك يا رب..»؛ وهو كما يصح بلفظ: (عاهدت) ومشتقاتها، وبلفظ إسم الجلالة، فإنه ينعقد بما يرادف لفظ العهد، كالعقد والميثاق والذمة، كأن يقول: «عليَّ ميثاق الله تعالى...»، أو: «عليَّ ذمة الله تعالى...»، أو: «عاقدتُ الله تعالى...»، ونحو ذلك؛ كما أنه يكفي فيه كل ما يدل على الذات المقدسة من الأسماء والصفات بالنحو الذي تقدم في اليمين والنذر. وكما يصح باللغة العربية الفصحى والعامية فإنه يصح بغير العربية حتى لمن يحسنها.
مسألة 484: العهد كالنذر في الإنعقاد مع الشرط وبدونه، فكما يصح قولك: «عاهدت الله على أن أصلي ركعتين شكراً لله تعالى» يصح قولك: «عاهدت الله على أن أصلي ركعتين إن شفي ولدي»؛ وحينئذ فإنه يمكن تقسيمه ـ كالنذر ـ إلى عهد منجز، وهو (عهد التطوع)، وإلى عهد معلق، وهو الذي ينقسم إلى عهد بر، شكراً لله أو بعثاً للغير نحو الخير، وإلى عهد زجر؛ كذلك فإنه يشترط في عهد البر أن يكون المعلق عليه مما يحسن تمنيه، وإلا لم ينعقد، تماماً كما مر في أقسام النذر. (أنظر المسألة: 479).
وتفصيله يقع في مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: في تعريف اليمين وصيغته وأقسامه
وفيه مسائل:
مسألة 471: اليمين: (صيغة تتضمن القسم بالله تعالى تأكيداً على صدق الإخبار بوقوع شيء أو عدم وقوعه، أو على العزم على ترك شيء أو فعله من قبل الغير أو النفس). والهدف منه هو: إشهاد الله تعالى شأنه على صدق المتحدث فيما يخبر عنه، أو إشهاده تعالى على صحة عزم الحالف على فعل شيء أو تركه، أو جعله تعالى وسيطاً وشفيعاً في حث المطلوب منه على فعل شيء أو تركه. وكما يقال له «اليمين» فإنه يقال له: «القسم» و«الحلف» و«الإيلاء». هذا، وسوف تتبين عناصر التعريف فيما يلي من مسائل.
مسألة 472: لا تنعقد اليمين إلا بصيغة يتوفر فيها عنصران:
الأول: أن تتضمن الصيغة كلمةَ (القسم) أو ما يرادفها من الكلمات، أو ما يقوم مقامها من الأحرف المجعولة لذلك، وذلك بنحو يفيد إنشاءه من قبل الحالف، سواءً في ذلك الإسم أو الفعل، وسواءً الفعل الماضي أو المضارع، إضافة إلى الحرف؛ فيصح أن تقول: «أُقْسمُ» أو: «أقْسَمْت» أو: «قسماً»، ومثل: (حلفت) أو (آليت) وما يشتق منهما، ومثل: «بالله» ونحوها من حروف القسم وأسمائه، وهي: التاء والواو ـ إضافة إلى الباء ـ من الحروف، ومثل: «أيْمُ الله» و«أيْمُنُ الله» من الأسماء.
الثاني: أن يكون المحلوف به هو الله تعالى دون غيره من المقدسات وأهل المقامات العظيمة من الإنس والملائكة. فيصح القسم وينعقد بكل إسم من أسماء الله تعالى، كالله والإله والرب ونحوها، وكذا بكل صفة من صفاته الخاصة مثل: القيوم وفالق الحب وبارىء النسمة، أو المشتركة التي تنصرف إليه تعالى: مثل الخالق والرحمن والرحيم ونحوها، بل ويصح بما لا ينصرف إليه تعالى من الصفات إذا قصده بها، كالسميع والبصير ونحوهما؛ وكذا ينعقد بمثل قوله: «لعمرو الله» أو «بحق الله» إذا كان القصد منهما ذات الله تعالى. فيما لا ينعقد الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالقرآن الكريم أو الكعبة الشريفة، أو الحلف بنبي أو وصي أو ملك مقرَّب، نعم ينبغي ترك الحلف بها مع قصد عدم الوفاء، تنزيهاً لمقام المقدس عن الإمتهان؛ وكذا لا ينعقد بالحلف بما لَهُ حرمتُه عند الحالف، كالحلف بولده الوحيد أو بشرفه أو بغير ذلك مما هو متداول على ألسنة الناس. وبناءً عليه، فإنه لا تنعقد اليمين بواحد من ذينك العنصرين دون الآخر، فكما لا تنعقد بلفظ أقسم دون إضافة إسم الله تعالى إليه واقترانه به، فإنها لا تنعقد ـ أيضاً ـ بلفظ إسم الله تعالى مجرداً عن ما يدل على القسم به تعالى.
كذلك فإن اليمين كما تنعقد باللغة العربية بالنحو الذي ذكرناه فإنها تنعقد ـ أيضاً ـ بغير العربية من اللغات شرط توفر العنصرين المذكورين بما يناسب قواعد اللغة المحلوف بها.
مسألة 473: لا يعتبر من اليمين ما لو كان حلفه بصيغة البراءة من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو من دينه أو من الأئمة عليهم السلام أو غير ذلك مما يجب الإعتقاد به ولا يجوز التبرؤ منه من العقائد والمقدسات، وذلك كأن يقول: «أبرأ من الله تعالى إن فعلت كذا» أو: «إن تركت كذا»، فإن قال ذلك لم ينعقد يميناً، بل هو قول مُحرَّمٌ يأثم قائله، وعليه ـ استحباباً ـ كفارةٌ إطعام عشرة مساكين إن حنث بيمين البراءة من الله تعالى ورسوله، دون ما لو كان بالبراءة من الأئمة عليه السلام فحنث به. وكما يأثم بيمين (العقـد) بالبـراءة، فإنـه يأثـم ـ أيضـاً ـ بالحلف بالبراءة على صدقه في الإخبار بوقوع أمر أو عدم وقوعه، دون فرق بين ما لو كان صادقاً في خبره أو كاذباً، وهي التي يقال لها يمين (التحقّق). (أنظر في المراد بــ «يمين العقد» و«يمين التحقّق» المسألة: 475).
مسألة 474: لا بد في انعقاد اليمين بما ذكرناه من كون الالتزام بالوفاء منجَّزاً ومطلقاً، فلا تنعقد اليمين إذا علقها على شيء آخر، كعودة زيد من السفر أو رضاه به أو إذا شفي ولده، بل لا يصح تعليق اليمين على مشيئة الله تعالى بنحو يكون التزامه بما أقسم عليه دائراً في وجوده وعدمه مدار تحقّق الشرط وعدم تحقّقه، نعم إذا علق الوفاء بيمينه على مشيئة الله تعالى من باب التبرك، وعلى أساس ربط أعماله به تعالى وإحالة كل شيء إليه مع توفر قصد جدي للوفاء بيمينه، انعقدت يمينه ولزمه الوفاء بها.
مسألة 475: تنقسم اليمين المشروعة إلى قسمين:
الأول: يمين التحقّق، وهي: (اليمين التي تقع لتأكيد الإخبار بوقوع شيء أو نفيه في الماضي أو الحاضر، أو لتأكيد حدوثه أو عدم حدوثه في المستقبل).
واليمين الصادقة مكروهة، إذ يحسن بالمؤمن أن لا يجعل الله تعالى عرضة لأيمانه ومضغة في لسانه، إلا ما يكون منها في مقام الموعظة كأسلوب بلاغي يراد به زيادة التأكيد عند ذكر الحقائق الدينية مجاراة للقرآن الكريم وأحاديث المعصومين عليهم السلام في ذلك، وإلا ما يكون منها لغرض راجح لا يتأدى إلا بالحلف، كدفع التهمة عن نفسه أو عن غيره من المؤمنين، أو لدفع مظلمة عن نفسه أو عن غيره كذلك، أو لتحصيل حق لا يتهاون العقلاء بمثله في الأهمية والخطر، أو لنحو ذلك من الأغراض الراجحة في الدين والدنيا.
أما اليمين الكاذبة فهي محرمة، بل هي من كبائر الذنوب، وتسمى (اليمين الغموس) أو: الفاجرة إذا كانت في مقام فصل الدعوى؛ ويجوز منهـا ـ بل قد يجب ـ ما كان لدفع الظلم عن نفسه أو غيره من المؤمنين إذا توقف عليه الدفع، وكان الظلم على درجة يهتم العقلاء بدفعه عن أنفسهم وعن غيرهم، فلا يشمل مثل ظلمه بمال يسير أو بلطمة خفيفة أو خدشة طفيفة. ورغم أن اليمين الكاذبة محرمة فإنه لا كفارة عليها.
وهذا القسم من اليمين (أي: يمين التحقّق) هو الذي يُطلب من المدّعى عليه في المنازعات عند عدم البيّنة لنفي حق المدعي، أو يطلب من المدعي لإثبات حقه عند امتناع المدّعى عليه من الحلف على نفيه؛ وهو أمر موكول إلى مباحث القضاء.
الثاني: يمين العَقْد، وهي: (ما تقع لتأكيد عزم الحالف على إلزام نفسه بفعل شيء أو تركه)، ولعله من أجل ذلك سميت (عقداً) من قولهم: «عقد عزمه على كذا» بمعنى: القصد المؤكد والوثيق؛ وهذا القسم هو محل البحث وعليه مدار مسائله، من وجوب الوفاء به وحرمة الحنث به ووجوب الكفارة على مخالفته وغير ذلك من الأحكام التي سيأتي تفصيلها والتي يشترك فيها مع النذر والعهد.
وإنما قلنا في تعريف هذا القسم: «... على إلزام نفسه.. إلخ» لإخراج ما يسمى بـ (يمين المناشدة)، وهي التي تقع لتأكيد عزم الحالف على إلزام غيره بفعل شيء أو تركه، كأن تقول عند دعوة الغير إلى طعامك: «والله لتأكلن من طعامي»، وذلك بهدف حثه على إجابة دعوتك وإظهار إصرارك عليه؛ فهي وإن كانت من أفراد يمين العقد ومصاديقها لكن لا يجب على الغير الالتزام بها، ولا يأثم الحالف بها، ولا تلزمه الكفارة إذا لم يستجب له المحلوف عليه، بل هو من عبارات المجاملة التي لا بأس باستعمالها في الآداب واللياقات الاجتماعية. ومنه ما لو حلف الولي على القيام بأمر يتعلق بالمولَّى عليه في أمور لا ولاية له عليه فيها، كأن حلف على تزويج إبنه البالغ الرشيد، أو نحو ذلك من الأمور، فإن اليمين لا تنعقد، نعم يصح منه الحلف في مثل هذه الحالة قبل أهليته بالبلوغ والرشد إذا كان في ذلك مصلحة له، فإذا بلغ رشيداً ولم يكن قد زوَّجه انحلت يمينه، ولم يكن عليه ـ ولا على ولده ـ إثم ولا كفارة إذا خالفاه.
المطلب الثاني: في تعريف النذر وصيغته وأقسامه
وفيه مسائل:
مسألة 476: (النَذْرُ) لغة: الوعد بخير أو شر، مع الشرط وبدونه. وأصله يدل على التخويف، ومنه (الإنذار)، أي: إخبار فيه تخويف؛ و(النذير) هو: المخبر بالخبر المخيف.
والنذر في الفقه هو: (صيغة يلتزم فيها الناذر بترك شيء أو فعله، لله تعالى)، فلا ينعقد بالنية المجردة عن اللفظ؛ كما أنه لا يشترط في الصيغة لفظ خاص، بل تصح بكل ما يفيد جعل فعلٍ أو تركٍ على ذمته لله تعالى إذا توفر فيها أمران:
الأول: جعل العمل على النفس لا على الغير، فلو جعله على غيره بمثل قوله: «لله على ولدي زيد أن يزور البيت الحرام إذا شفي من مرضه» كان لغواً لا يُلزِمُ الناذرَ ولا المنذورَ عنه بشيء، إلا أن يكون على من له الولاية عليه وبالنحو الذي تقدم في اليمين. (أنظر آخر فقرة «الثاني» من المسألة السابقة).
الثاني: أن يكون التزامه لله تعالى، فلو خلت الصيغة منه فاقتصر على قوله: «نذر علي أن أفعل كذا) كان لغواً لا يُلزمه بشيء؛ وكذا لا يجب الوفاء بما لو نذر لغير الله تعالى من الأنبياء والأوصياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، كما لو قال: «لك عليّ يا رسول الله أن أصلي ركعتين شكراً لله تعالى إذا تركت التدخين»، أو نحو ذلك.
فالصيغة المطلوبة في انعقاد النذر هي التي تشتمل على ذينك الأمرين، ويكفي فيها أن يقول: «لله عليّ صلاة ركعتين إن وصلت سالماً»، باللغة العربية أو بغيرها ولو لمن يحسن العربية، وباللهجة الفصحى أو العامية من العربية، وبأية طريقة رَكَّبَ بها الصيغة. بل يتحقّق النذر بما لو زاد على تلك الصيغة كلمة (نذر) ومشتقاتها، كأن يقول: «نذرت لله تعالى... إلخ»، أو: «نذر لله عليّ...»، أو ما أشبه ذلك.
مسألة 477: لا يشترط في الصيغة ذكر لفظ الجلالة بخاصة، بل يصح بكل ما دل عليه من الأسماء والصفات الخاصة به، أو المشتركة إذا قصد بها الله تعالى.
مسألة 478: الأصل في النذر أن يكون الوفاء بالمنذور معلقاً ومشروطاً بحدوث أمر معين، وذلـك علـى خـلاف اليميـن، لكنـه يصـح ـ أيضاً ـ إذا كان منجزاً ومطلقاً، ويسمى (نذر التبرع)، كأن يقول: «لله علي أن أصوم يوم الخميس» دون تعليقه على شيء، فإنه ينعقد ويجب الوفاء به، وحينئذٍ فإنه يفيد فائدة اليمين ويغني عنها، ويكون الفرق بينهما أن الحالف في اليمين يشهد الله تعالى على التزامه دون أن يقصد بنفس حلفه التوجه إلى الله تعالى وإن كان المحلوف عليه طاعة وعبادة، فيما يرتكز الالتزام من الناذر على التوجه بنفس التزامه ونذره إلى الله تعالى سواء كان المنذور عبادة أو غيرها، وبعبارة مختصرة: (نفس الحلف ليس طاعة فيما لا يكون النذر بذاته إلا طاعة).
مسألة 479: ينقسم النذر المعلـق ـ من حيث طبيعة الشرط الذي علق عليه ـ إلى قسمين:
الأول: نذر بِرٍ: وهو ما كان الهدف منه حث النفس ـ أو الغيـر ـ وبعثها إلى أعمال الخير والبر ولو من خلال ما يكون شكراً لله تعالى على ما وفق إليه من أعمال أو أفاض من نعم، فإن في نفس الشكر على ذلك ما يزيد النفس انبعاثاً إلى الخير؛ ولذا صح أن يكون بهذا اللحاظ على نحوين:
1 ـ نذر شكر لله تعالى على إيجاد الشرط، سواءً لنفسه أو لغيره، كأن يعلق نذر الصيام على شفائه أو شفاء ولده، أو على توفيقه لزيارة الإمام الحسين عليه السلام أو بناء بيته أو أداء فريضة الحج، أو غير ذلك من أمور الدين والدنيا من مصلحة حلت أو مفسدة اندفعت.
2 ـ نذر بعث لغيره من أجل فعل الخير، كأن يقول لولده: «إن حفظت القرآن الكريم فلله عليّ أن أبذل لك نفقة حجك»، ونحو ذلك مما يكون من قبيل الجائزة لفاعل الشرط على قيامه به.
أما مورد نذر البر بنَحوَيْه فهو ما إذا كان الشرط أمراً وجودياً أو عدمياً مرغوباً فيه للناذر، سواءً كان مِنْ فعله أو فعل غيره، ويعتبر أن يكون مما يَحسُن به تمنيه ويسوغ له طلبه من الله تعالى، إما لكونه طاعة لله تعالى، كفعل واجب أو مستحب أو ترك حرام أو مكروه، وإما لكونه انقياداً له تعالى بفعل ما يحتمل محبوبيته له وترك ما يحتمل مبغوضيته عنده، أما المباح المحض كالمشي والنوم ونحو ذلك فإن الظاهر فيه ـ أيضاً ـ جواز تعليق النذر عليه. وهنا لا بد من إلفات النظر إلى وجود فرق بين اشتراط النذر أو العهد وتعليقهما على المباح، وبين ما لو كان متعلق النذر أو العهد هو المباح، فالأول، وهو المذكور آنفاً، جائز، مثل أن يقول: «إن شربت الماء فللَّه عليّ أن أتصدق» والثاني غير سائغ، وهو مثل أن يقول: «إن شفيت من مرضي فللَّه عليّ أن أشرب الماء»، وهو الذي سيأتي بيانه في فقرة (الأول) من المسألة: 487.
فإن كان الشرط مما لا يحسن تمنيه، كما لو علق نذر الشكر على فعل الحرام أو المكروه أو ما يحتمل مبغوضيته، أو علقه على ترك الواجب أو المستحب أو ما يحتمل محبوبيته، أو علقه على ما فيه ضرر وأذى للإنسان أو غير الإنسان من الشرور والكوارث، لم ينعقد النذر، بل يأثم الناذر في بعض موارده، كمثل نذر الشكر على المعصية وعلى وقوع الأذى على المسلم.
الثاني: نذر الزجر، وهو ما يراد به ردع النفس عن فعل ما لا يحسن تمنيه، وذلك تشويقاً لها للطاعة وتزهيداً لها بالمعصية. ويكون إما: على ترك الواجب أو المستحب أو ما يحتمل أنه محبوب لله تعالى من كريم الأعمال، وإما: على فعل محرم أو مكروه أو ما يحتمل مبغوضيته من منافيات المروءة؛ وذلك كأن يقول: «لله عليّ أن أتصدق بألف دينار إن تركت الصلاة» قاصداً بذلك زجر نفسه عن ترك الصلاة، وهكذا سائر الموارد التي يجمعها كون الشرط من الأعمال الاختيارية للناذر. ولكن ينبغي الالتفات إلى أن هذه الموارد كما هي صالحة لأن تكون نذر بر زجراً للنفس عما لا يحبه الله تعالى فإنها صالحة ـ أيضاً ـ لأن تكون نذر شكر على المعصية، والمائز بينهما ـ حينئذ ـ هو القصد، فإذا قصد الناذر بها الشكر على المعصية أثم ولم ينعقد النذر.
مسألة 480: إذا علَّق النذر على أمر راجح ثم عرض عليه ما جعله مرجوحاً انحل النذر المعلق عليه.
مسألة 481: إذا تم النذر بالصيغة التي ذكرناها، وكان مستكملاً لسائر الشروط المعتبرة فيه مما سنذكره لاحقاً، انعقد ولزم الناذر الوفاء به وحرمت مخالفته ووجبت الكفارة على المخالفة، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث خاص لاحقاً.
المطلب الثالث: في تعريف العهد وصيغته وأقسامه
وفيه مسائل:
مسألة 482: العهد: (صيغة يعاهد فيها المؤمن ربه على الالتزام بفعل شيء أو تركه)؛ وهو أشبه باليمين في كونه لإشهاد الله تعالى على الالتزام بالعمل دون أن يكون بذاته طاعة لله تعالى، وإن اختلفا في كون الالتزام في العهد مرتكزاً ومُبرَزاً بلفظ عاهدت وما أشبهه، فيما الالتزام في اليمين مرتكز على القسم بالله تعالى، حتى كأن العهد نوع من الترقي في تشديد الالتزام من كون المؤمن معتمداً في اليمين على مجرد ذكر الإسم الأعظم إلى كونه في العهد ينشىء عقداً مع الله تعالى ليشهد على الالتزام ويحاسب عليه، فهو أوثق في الإرتباط وأعلى في الالتزام. أما ما يختلف به عن النذر فهو أن النذر بنفسه طاعة لله تعالى ولو لم يكن المنذور طاعة، فيما العهد بنفسه ليس طاعة حتى لو كان المعاهَد عليه طاعة، وهو نفس الفرق الذي سبق ذكره بين اليمين والنذر. (أنظر المسألة: 478).
مسألة 483: لا ينعقد العهد بمجرد النية، بل لا بد فيه من اللفظ، ويكفي فيه كل ما يدل على التعاهد مع الله تعالى شأنه، مثل أن يقول: «عاهدت الله على أن أفعل كذا» أو: «علي عهد الله...»، أو: «عاهدتك يا رب..»؛ وهو كما يصح بلفظ: (عاهدت) ومشتقاتها، وبلفظ إسم الجلالة، فإنه ينعقد بما يرادف لفظ العهد، كالعقد والميثاق والذمة، كأن يقول: «عليَّ ميثاق الله تعالى...»، أو: «عليَّ ذمة الله تعالى...»، أو: «عاقدتُ الله تعالى...»، ونحو ذلك؛ كما أنه يكفي فيه كل ما يدل على الذات المقدسة من الأسماء والصفات بالنحو الذي تقدم في اليمين والنذر. وكما يصح باللغة العربية الفصحى والعامية فإنه يصح بغير العربية حتى لمن يحسنها.
مسألة 484: العهد كالنذر في الإنعقاد مع الشرط وبدونه، فكما يصح قولك: «عاهدت الله على أن أصلي ركعتين شكراً لله تعالى» يصح قولك: «عاهدت الله على أن أصلي ركعتين إن شفي ولدي»؛ وحينئذ فإنه يمكن تقسيمه ـ كالنذر ـ إلى عهد منجز، وهو (عهد التطوع)، وإلى عهد معلق، وهو الذي ينقسم إلى عهد بر، شكراً لله أو بعثاً للغير نحو الخير، وإلى عهد زجر؛ كذلك فإنه يشترط في عهد البر أن يكون المعلق عليه مما يحسن تمنيه، وإلا لم ينعقد، تماماً كما مر في أقسام النذر. (أنظر المسألة: 479).